كنا نريد ألمانيا فوصلنا رومانيا: ” أبحث عن رفاهية عائلتي.. و إن وجدتها سأبقى هنا”
بلال* (38 عاما) زوج ووالد طفلتين، التقى به .. في مركز منظمة “آيدروم” (AIDROM) في العاصمة بوخاريست، حيث يقيم منذ أسابيع قليلة. بلال وعائلته، وهم من اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، خاضوا تجربتي هجرة انطلاقا من الأردن وليبيا. في المرة الأولى وصلوا إلى ألمانيا، حيث رزق بلال وزوجته بابنتهما الصغرى. أما في الثانية، قادتهم أشرعة مراكبهم إلى رومانيا، حيث قرروا أن يستقروا ويحاولوا تحصيل جزء مما فاتهم من تعليم وراحة وهدوء بال.
تحدث بلال ل.. بشكل مستفيض، وفي ما يلي سرد لقصة هجرته.
عام 2012 قررنا الهجرة. توجهنا إلى ليبيا، تحديدا إلى مدينة الخمس. حينها لم أكن أفكر بالهجرة إلى أوروبا بتاتا، كانت حياتي في ليبيا هانئة وعملي وعمل زوجتي كان جيدا إلى حد بعيد. زوجتي متخصصة بالعمل مع الأطفال المصابين بالتوحد، تمكنت من العثور على عمل لدى إحدى المنظمات المحلية العاملة بهذا الإطار، أما أنا فكنت أعمل في مجال التكييف والتبريد وفي مجال شراء وبيع السيارات.
مضت الأيام والأشهر وكان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن وقعت اشتباكات في المدينة بين الميليشيات، شعرت حينها بالخطر والخوف على زوجتي وابنتي. أثناء التشاور مع بعض الأصدقاء من العائلات العربية المقيمة في الخمس، قررنا أن نجرب حظنا مع الهجرة سعيا وراء الأمان، وهذا ما حصل.
الخطوة الأولى
بداية عام 2019 توجهنا جميعنا، أنا وعائلتي وبضعة عائلات عربية أخرى إلى مصراتة. أقمنا هناك بضعة أيام قبل أن ننطلق على متن قارب خشبي باتجاه إيطاليا. الرحلة كانت مرعبة والموت كان يحدق بنا من كافة الاتجاهات. بعد طول عناء وثلاثة أيام قضيناها تحت رحمة المتوسط، وصلنا إلى صقلية. نقلونا حينها إلى البر الإيطالي حيث أمضينا شهرا هناك.
تعرفت أثناء تلك المدة على أحد المهربين العرب، دفعت له الأموال مقابل تأمين عبوري إلى ألمانيا. تمكن المهرب من تأمين أمكنة لنا، أنا وزوجتي وابنتي (كانت تبلغ من العمر حوالي سنتين في حينه) على متن إحدى الشاحنات المتوجهة إلى فرنسا. نزلنا في مدينة ليون حيث أمضينا يومين قبل أن يتصل بي المهرب ويؤمن لي مكانا على متن شاحنة أخرى متجهة إلى ألمانيا.
أمضينا في ألمانيا سنة ونصف، رزقت خلالها بطفلتي الثانية. كنت سعيدا بحياتي هناك، وعائلتي أيضا، تعلمنا اللغة الألمانية وبدأنا بالاعتياد على الروتين اليومي، على الرغم من أن طلب اللجوء الخاص بنا رفض.
عينت محامية لمتابعة ملف اللجوء، لم أكن قلقا، كنت متأكدا بداخلي أننا سننال اللجوء عاجلا أم آجلا.
العودة للأردن
وأثناء محاولة زوجتي الاطمئنان على أولادها (المقيمين لدى طليقها في الأردن)، تمكنت إحدى أقرباء الزوج من إقناع زوجتي بأنها ستتمكن من الحصول على الحق بحضانة أطفالها شرط أن تعود شخصيا إلى الأردن وتتفاهم مع طليقها.
بعد طول مشاورات، لم أتمكن سوى قبول قرار زوجتي، بالنهاية هؤلاء أطفالها ويجب أن يكونوا تحت رعايتها. أوقفت كافة معاملات اللجوء في ألمانيا، أعلم أن هناك من سيقول إنني أخطأت، ولكنني كنت أمام خيارين، إما البقاء وإجبار زوجتي على البقاء وبالتالي حرمانها (ربما للأبد) من أطفالها من زواجها الأول، أو أن أعود للأردن مقدما مصلحة العائلة أولا.
تقدمنا طلب عودة طوعية. عدنا للأردن. في الأيام الأولى كان علينا أن نعيد التأقلم مع الحياة اليومية هناك. لم يكن لدي عائلة متبقية في الأردن، فأمي وأختي توجهتا للإقامة لدى أخي في إحدى دول الخليج.
اتصلنا بعائلة الزوج السابق، واتفقنا معهم على موعد معين لرؤية الأولاد. وفي النهار المحدد توجهنا إلى العنوان الذي كان الزوج السابق قد زودنا به. كنت أركن سيارتي قبل أن أفاجأ بجموع كثيرة يحملون العصي والحجارة والجنازير… كانوا يريدون مهاجمتنا أنا وزوجتي. زوجها السابق كان من ضمنهم، وكان يتوعدنا بالقتل.
توجهت للشرطة في المدينة التي وقعت فيها الحادثة. ضابط الشرطة نصحني بعدم تقديم الشكوى، قال لي إن عائلة الزوج السابق كبيرة ونافذة، لكنني أصريت وتقدمت بالشكوى.
في مساء ذلك اليوم، رن هاتف المنزل الذي كنت أستأجره، وإذ بالزوج السابق يشتمني ويتوعدني وعائلتي بالقتل، قال لي إنني لن أحيا لأغادر الأردن مرة أخرى.
العودة لليبيا
في اليوم التالي انتقلت إلى عنوان آخر، شعرت بخوف شديد على بناتي، أعرفه وأعرف عائلته وأعرف أنهم سيتمكنون من أذيتنا إذا أرادوا. لذا، عادت الهجرة إلى النقاش اليومي وعادت ليبيا تلوح وكأنها الخيار المثالي أمامنا.
اتصلت بأحد أصدقائي في طرابلس، ساعدني على الحصول على تأشيرة دخول. بعد عودتنا بفترة قصير استأنفت نشاطي المهني في مجال التكييف والتبريد والتجارة بقطع السيارات المستعملة، أما زوجتي قررت أن تؤسس عملا صغيرا، صالون تجميل للسيدات.
كنا نقيم في مدينة مسلاتة، وكنا على علاقة طيبة جدا بالمجتمع. يوم افتتاح الصالون حضرت الكثير من النساء لمشاركتنا تلك المناسبة. أنا كنت في سيارتي بجانب الصالون أنتظر انتهاء “الحفلة”. فجأة ظهرت سيارة رباعية الدفع على متنها ملثمون ملتحون مسلحون، ركنوا سيارتهم أمام الصالون وبدأوا بإطلاق النار في الهواء. ركضت لأنقذ زوجتي فقبضوا علي، أركعوني أرضا وفوهات بنادقهم موجهة لرأسي. أحدهم تحدث معي بلهجة قاسية، قال لي “يا غريب ممنوع عليك أن تفتتح مصالح هنا، إرحل عن المدينة”.
أوروبا مجددا
في المساء عدنا وزوجتي نناقش الخيارات أمامنا، لنستقر سوية على ضرورة إعادة الكرة باتجاه أوروبا. عقدنا العزم وحزمنا الأمتعة وبحلول نهاية أيلول/سبتمبر توجهنا لصبراتة. بضعة أيام مرت قبل أن تمكنت من التواصل مع مهرب وضعنا على متن قارب باتجاه إيطاليا.
وصلنا صقلية حيث أودعونا إحدى العبارات لقضاء فترة الحجر الصحي، بعدها نقلونا إلى البر الإيطالي. أثناء الحجر، تمكنت من الاتصال بمهرب في إيطاليا وطلبت منه مساعدتنا بالعودة لألمانيا.
بعد أيام قليلة من وصولنا البر الإيطالي، تواصل معنا المهرب ووضعنا على متن شاحنة قال إنها متوجهة إلى ألمانيا. صعدنا إلى الشاحنة وأسلمنا قدرنا للسائق البولندي.
بعد يومين، توقفت الشاحنة، فتح السائق باب المقطورة وطلب منا النزول. سألته أين نحن؟ قال في البوسنة، وثم صعد إلى شاحنته وانطلق.
لم أكن أعرف أين نحن، كانت مصيبة، جميعنا متروكون في منطقة غير مأهولة. بدأنا بالسير، ساعات من السير المرهق، إلى أن وصلنا إلى قرية صغيرة. سألت هناك عن مخيمات المهاجرين، أحد السكان أرشدنا إلى محطة الباصات وساعدنا بحجز بطاقات إلى العاصمة سراييفو. توجهنا مباشرة إلى المخيم. أيام قليلة أمضيناها في سراييفو قبل أن يتم نقلنا إلى مخيم بيهاتش القريب من الحدود الكرواتية.
مرض الطفلة
ستة أشهر في البوسنة حاولنا خلالها مرات لا تحصى عبور الحدود إلى كرواتيا، لم نفلح في أي منها. أصيبت ابنتي الصغرى بداء “كاواساكي”، وهو مرض يصيب الأطفال ويؤثر على وظائف قلبهم الحيوية. لم تفلح محاولاتي بتأمين علاج لها في البوسنة. أحد العاملين الاجتماعيين في إحدى المنظمات غير الحكومية نصحني بالتوجه إلى صربيا، فعبور الحدود إليها من البوسنة ليس صعبا بتاتا.
مطلع أيار/مايو كنا في صربيا، 10 أيام وليال وأنا أبحث عن منظمة لمساعدتي بعلاج ابنتي، لم أفلح، فلم يكن أمامي سوى التفكير بالمغادرة مجددا، هذه المرة إلى رومانيا.
منتصف حزيران/يونيو عبرنا الحدود وطلبنا اللجوء مباشرة. نقلونا إلى مخيم بوخاريست حيث أمضينا أياما قليلة قبل أن تتكفل بنا منظمة “آيدروم” وتستضيفنا في مركزها.
كوننا عائلة، اعتبرت السلطات أننا من الفئات الضعيفة، وأخضعونا مباشرة إلى عملية طلب لجوء مستعجلة. قمنا بالمقابلتين وننتظر الجواب الآن.
بصراحة، أحسست بالراحة في رومانيا، فالاستقبال كان جيدا وحظيت ابنتي باهتمام مباشرة بعد وصولنا. أعتقد أنني سأبقى هنا بعد الحصول على اللجوء، يمكنني العمل وتأمين الحياة التي أرجوها لعائلتي. أطفالي وزوجتي أحبوا البلد والمنظمة التي تستضيفنا قدمت لي شرحا وافيا حول الحياة هنا.
بالنهاية لا يهمني أين سأقيم أو ما المهنة التي سأعمل بها، تفكيري منصب الآن على مستقبل بناتي ورفاهية عائلتي. وإن كنت سأجدهما في رومانيا سأبقى.