مقالات مهمة

في السويد أنت تموت بهدوء وحيداً … ملك الموت لا يستأذن بالدخول…!

مقال لكاتبه .

في السويد يموت الناس بصمت يليق بخفة ملائكة الموت. يموتون في عزلة. يموتون وليس بجانبهم إلا القليل من الأهل والاقارب ، وربما لن يجدوا أحد فيمتون دون أن يشعر بهم أحد في دار للمسنين أو في منازلهم حتى تفيح رائحة الموت من أجسادهم …  كيف سيعرف الأهل والأصدقاء بنبأ الوفاة ؟!



سؤال صعب ، لكن الدولة والمؤسسات ( والسويد “دولة مؤسسات” بامتياز) تتعامل مع هذا الجانب الإنساني بطريقة منطقية وليس بطريقة عاطفية . ففي سجلات كل شخص مسّن ، أو يحصل على رعاية كبار السن خانة يتطلب وضع معلومات فيها ، وهي السؤال عن أسم وهاتف الشخص الذي يجب الاتصال به في حالات الطوارئ وفي حالة الوفاة ، خصوصا عندما تكون رجل كبير مسن تتلقى الدعم من موظفي الرعاية . ولكن في كثير من الحالات تظل هذه الخانة فارغة !



 

في السويد يموت الناس بطرق سريالية وبطرق مضحكة وبطرق مقيتة. أشدها مأساوية تلك التي تحدث  بعد أن يموت الإنسان في منزله و يتفسخ المرء في شقته و”ينزعج” الجيران من رائحة لا يعرفون مصدرها .. ولكنها ليست إلا رائحة الموت في  الجسد الذي بدأ يتحلل وحيداً ولم يحصل على كرامة الدفن التي تميز الإنسان عن الحيوان .

قرأت في صحيفة Göteborgs-Posten قبل أيام أن رجلا   استأجر غرفة مفروشة في شقة في أطراف المدينة قبل ثلاثة أسابيع . وبعد بضعة أيام بدأت تظهر عليه أعراض المرض/الموت.



 

كانت صاحبة الشقة ، وهي سيدة مسنة ، تخاف عليه وترسل زوجها يقرع الباب ويطمئن علي حياته… إلى أن قرع الباب في أحد الأيام ولم يتلقَ رداً…

كان ملك الموت  عزرائيل “وهذا اسم لا يوجد له مصدر في الكتب السماوية)  قد سبقه إلى الغرفة وقبض روح الرجل المسن!  



إتصلت السيدة بالشرطة السويدية كي تحضر وتأخذ الجثة. وأتصلت الرعاية الصحية بأولاده في مدينة “أوديفالا” التي لا تبعد عن غوثنبيرغ أكثر من ثلاثين كيلومتراً ، لإخبارهم  بوفاة والدهم ، ولكن لم يحضر أحد لإجراء مراسيم الدفن ، فالجيمع مشغول بعمل أو مسافر أو لديه مشاغل خاصة ، حاولوا التجمع بعد شهر أو شهرين ولكن فشلوا في جمع أبناء أو أقارب الرجل المتوفي ، لم يحضر أحد  حتى لإلقاء نظرة أخيرة على الأب. يا له من أب بسعر رخيص بخس !!




قامت السيدة وزوجها مالكة الغرفة المفروشة، بالتعاون مع الجهات المعنية ، بالواجب. بتحضير طقوس دُفنَ الرجل وحيداً كما عاش وحيدا لسنوات. في هذا البلد- السويد  ، “بلد الرفاه” و “المعجزة الاقتصادية” والإنسانية اللامحدودة ، لا أحد يعرف حقيقة أحد، ولا شيء يكشف ويخفي  حقيقة الناس إلا الموت.



تتعدد الوفيات، وتتعدد القصص حول هذا وذاك. كنت في كوبنهاغن قبل شهرين . وفي لقاء عابر مع  صديق  وهو طبيب عراقي يقيم في الدانمارك منذ سنوات ، سألته عن جاره اللبناني الذي أصَرَّ و”حلف بالطلاق” على أن أحلّ ضيفا عليه في العام الماضي (مع أنني لا أعرفه)   :




فقال لي صديقي : ” يا سبحان الله… اليوم جنازته… سأذهب الى كنيسة الروم الكاثوليك في نوربرو لحضور القداس.. هل تود أن تأتي معي؟”




وعندما لاحظ إستغرابي ، قال موضحا :

 أنت معذور… فأنت لا تعرف الرجل . لا زلت أذكر إصراره على إستضافتك عندما إلتقى بك في بيتي لأول مرة…  هل تعرف أن المرحوم  تنقل من دين إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر ، ليس حباً في معرفة الأديان والتعمق في المذاهب، بل رغبة في التكسب والبحث عن عائلة وأصدقاء يلجأ إليهم بعد أن خانته الحياة وتخلت عنه زوجته بعد أن هربت مع عشيق في عمر أبنائها. وسافر أولادة لدول أخرى للعمل وجمع المال



“كان المرحوم ساخراً ضاحكاً. – لقد إنتحر . قرر أن يضع حداً لحياته لكي يتخلص من الوحدة والجرح المكبوت … لقد  عثروا على جثته بعد  عشرين يوما… وذلك بعد أن اتصل أحد الجيران بشركة السكن ليشكو من رائحة كريهة…!!”



سمعت القصة وأن أشعر بالغثيان مما أسمعه ـ و ذهبت مع  صديقي الى كنيسة الروم الكاثوليك لحضور القداس الذي أقيم  للمرحوم … ولفت انتباهي أن الكنيسة كانت خالية إلا من بضعة عجائز ربما كانوا أصلا هناك لحضور صلاة الأحد .

لم يبكِ أحد بصوت عال.

صمت كصمت المقابر كما يقول الألمان .

عيون دانماركية حمراء وغريبة.

تم الدفن بحضور القس .

أعاد القس  بعض الصلوات (“من التراب جئت ، والى التراب تعود”) وأنا لا أعلم عن هذه الصوات شيء فأنا لست على مسيحي…




كنت أنظر الى القسيس ، ولا أدري لماذا خيلَ إليّ بأنه كان حريصا على الإنتهاء من أداء هذا “الواجب الثقيل” في أقصر وقت ممكن…

حمل كلٌ من المشيعين وهم أقل من عدد الأصابع وردة  ووضعوها فوق ضريح  الميت استعداداً للنوم الطويل في تلك الحفرة الضيقة الباردة. لاحظت أن جميع الحفر على نفس المقاس تقريباً.



ثم إنصرف الغرباء كلٌ إلى شأنه. وفي طريق العودة الى محطة القطارات المركزية للعودة للسويد   كانت أفكاري تتمحور أين أبنائي الذين سافرو  لأمريكا وكندا ؟  و.لماذا جئت للسويد وأضعت عمري وابنائي ؟ وكم من الوقت سيمضي على تعفن جثتي قبل أن يتصل جاري بشركة السكن…ليشكو من رائحة كريهة…  وهل سيحضر ابنائي أو معارفي جنازتي أو سيتم البحث عن شيخ ومقبرة باردة لكي أدفن فيها وحيداً كما أنا وحيداً الآن ؟!




عزرائيل لا يستأذن بالدخول…!

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى