شاحنة الموت البريطانية: لاجئ سوري يروي تفاصيل صراعه مع الموت في براد الشاحنة في بريطانيا
انفطر قلبه ألماً على موت الفيتناميين في “شاحنة الموت” التي وصلت إلى المملكة المتحدة في الـ 23 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقرر أن يحكي تفاصيل رحلته المروعة إلى المملكة المتحدة داخل شاحنة تبريد، وكيف صارع الموت هو ومن كانوا معه من إيرانيين وأفغان حتى اللحظات الأخيرة عندما عثرت عليهم الشرطة البريطانية وأنقذتهم. “لعلني أستطيع المساعدة في إنقاذ أرواح قبل أن تصبح ضحايا، لأن معظم من يخوض تجربة البراد لا يعلم عنها شيئاً فيغامر بحياته”.
بلا شك، أثرت حادثة موت الفيتناميين الـ 39 الذين كانوا على متن شاحنة التبريد التي وصلت إلى مقاطعة إسيكس البريطانية على كل من سمع أو قرأ عنها، إلا أن من عاش التجربة نفسها، يتألم أكثر لأنه يدرك ويعلم حجم الألم الذي عانوه.
وصل اللاجئ السوري زهرالدين إلى المملكة المتحدة داخل شاحنة تبريد مع مجموعة من الإيرانيين والأفغان بينهم نساء وأطفال، يروي زهرالدين تفاصيل لم يذكرها لأحد من قبل، وكيف حالفهم الحظ بأن يعيشوا بعد أن كانوا على وشك الموت.
لم يشأ زهرالدين، اللاجئ السوري (مواليد مدينة حلب، 1984) الذي يعيش حالياً في مدينة مانشستر البريطانية، أن يتذكر التجربة التي مرّ بها مدى الحياة من شدة ألمها، وكان قد وعد نفسه أن يبدأ حياته من جديد ويحذف من ذاكرته كل ما يتعلق بتفاصيل رحلة لجوئه إلى المملكة المتحدة.
إلا أن موت 39 مهاجراً فيتنامياً مؤخراً، جعله يشعر بالمسؤولية تجاه آلاف الشباب الذين قد يفكرون بالقدوم إلى المملكة المتحدة داخل شاحنات مبردة، ويغامرون بحياتهم لاعتقادهم أن هذه الوسيلة هي الأنجح والأسرع للوصول إلى المملكة المتحدة، دون أن يعلموا بأن هكذا رحلة قد تكلفهم حياتهم.
” ما لا يعلمه الكثيرون ممن يضطرون إلى التعامل مع المهربين وتجار البشر، أن رحلة البحث عن الحياة قد تنقلب في أي لحظة إلى رحلة موت بطيء” كما يقول زهرالدين.
ويضيف: “أشعر بالذنب إن لم أشارك تفاصيل رحلتي المرعبة في شاحنة نقل الخضروات مع غيري، لعلّني أنقذ أرواحاً لأنهم لا يعرفون ما ينتظرهم في رحلتهم المحفوفة بالمخاطر”.
البــــــــــــــداية
وصل زهرالدين إلى مدينة كاليه الفرنسية التي يتجمع فيها اللاجئون، بعد أن أخبره المهاجرون في فرنسا أن الطريق إلى المملكة المتحدة يبدأ من تلك النقطة.
لم تكن رحلة الوصول إلى كاليه سهلة على الإطلاق، بل محفوفة بالمخاطر، فقد ركب القارب المطاطي وسط ظلام دامس وبحر مرعب من تركيا إلى اليونان، ثم توجه إلى فرنسا مروراً بألبانيا والجبل الأسود وصربيا وبلغاريا والنمسا وألمانيا لينجو ليس فقط من مفاجآت البحر بل من مافيات هذه الدول ومهربيها المنتشرين في المناطق الحدودية في تلك الدول.
يقول زهرالدين عن محاولاته الأولى للخروج من مدينة كاليه الفرنسية في شاحنات مختلفة: “لم يعلم معظم السائقين بوجودنا على متن شاحناتهم لأننا كنا نقوم بذلك ليلاً أثناء استراحتهم وانتظارهم في الطابور على أطراف الميناء، وكان يجري ذلك بتوجيهات من المهربين الذين كانت لديهم الخبرة بوجهات تلك الشاحنات ويستطيعون قراءة الشفرات التي تدل على وجهة الشاحنة فضلاً عن معدات وأدوات لفتح أبوابها وإغلاقها دون ترك أي أثر يدل على أن الباب فُتح”.
ويضيف: ” كان المهربون يتقاسمون ساحات وقوف الشاحنات فيما بينهم، وإذا كان المهرب مبتدئاً، فلن يعرف الكثير عن وجهات الشاحنات وقراءة الشفرات، فقد نُرسل إلى ألمانيا أو الدنمارك مثلا بدلا من المملكة المتحدة.
فشلت عدة محاولات له خلال فترة وجوده لأكثر من أسبوعين بسبب ركوبه في شاحنات مغطاة بالقماش، الأمر الذي يؤدي إلى كشفهم بمجرد مرور الشاحنة بجانب عامود الماسح الضوئي “Scanners” الضخم المخصص للكشف عما يوجد داخل الشاحنة و”خاصة الأشخاص أو أي مخلوق يسري فيه دم”.
ويحكي زهرالدين كيف تم كشف وجوده ومجموعات أخرى من الشباب والنساء والأطفال عدة مرات بعد ذلك، ودفعه يأسه وانتظاره في كاليه إلى الأخذ بنصيحة المهرب وخوض الرحلة داخل شاحنة مبردة لنقل الخضروات، ولا تستطيع حتى الكلاب المخصصة لهذا الغرض اكتشاف ما بداخلها.
بداية الحياة أو نهايتها
كان هناك أربعة مهربين على أطراف الميناء، ثلاثة عراقيين وإيراني، يعملون في تهريب البشر خلال فترة وجوده في كاليه الفرنسية، كانوا يتبدلون ويتغيرون بين الفينة والأخرى، بدا على أحدهم أنه يحمل الجنسية البريطانية بسبب اتقانه للإنجليزية وسيارته البريطانية. وكان معظم اللاجئين الذين خاضوا تجربة البراد مع زهرالدين من أصول ليبية وعراقية وأفغانية وبنغلاديشية وسورية وإيرانية على حد قول زهرالدين..
ويضيف: “جميع المهربين يحملون أسماء مستعارة، لم نعلم قط أسماءهم الحقيقية، كانوا يلعبون دور الأسياد ومستعدين لمعاقبة أي شخص قد يخالف توجيهاتهم بأشد العقوبات التي قد تصل إلى القتل إن لزم الأمر. كانوا يعاملوننا كالعبيد، لا نستطيع حتى رد الإهانة خوفاً على حياتنا، أما أثناء الدوريات التفتيشية من قبل الشرطة الفرنسية، فكانوا يتظاهرون بأنهم من بين أولئك اللاجئين، ولم يجرؤ أحد البوح بأسمائهم قط”.
في المحاولة الخامسة أحمد، أقنعه المهربون باستخدام شاحنة الخضروات المبردة لأنها أسرع طريقة وأضمنها.
تراوح ثمن النفر أو الرأس الواحد – تعبير اعتاد أن يستخدمه المهربون على المهاجرين ما بين 1000 و 2000 دولار، أما الآن فالمبلغ يتراوح بين خمسة إلى ستة آلاف دولار للشخص الواحد.
وفي حال كان الاتفاق مع سائق الشاحنة نفسه، وهي حالات لم أصادفها، فيتراوح المبلغ بين 12 إلى 15 ألف دولار للشخص الواحد أو أكثر من ذلك.
لم يجرؤ الكثيرون على طرح أسئلة على المهربين حول تفاصيل الرحلة بخلاف زهرالدين الذي كان يسأل كثيراً، الأمر الذي قوبل بتهديد المهربين له باستثنائه من الرحلات القادمة.
ويعتقد زهرالدين بأن المهربين لم يرغبوا في الحديث عن تفاصيل الرحلة طمعاً بأموال اليائسين هناك، لأن الكثيرين كانوا سيمتنعون عن رحلة البراد لو عرفوا بتفاصيلها.
وأشار زهرالدين إلى قوته البدنية قائلاً: “ظننت أن بنيتي الجسدية القوية ستحميني من البرد والشدة، فقد كنت سباحاً ورياضياً مثابراً، لكن درجات الحرارة المنخفضة ستصيبك بالشلل مهما كانت قوتك، إذا بقيت على تلك الحالة عشر ساعات”.
وعن المحاولة الأولى يقول: “عندما حل الظلام، جاء المهربون الأربعة، وأخذ كل واحد منهم مجموعة من الأشخاص معه باتجاه موقف الشاحنات، كان عددنا 22 شخصاً، بينهم امرأتان وطفلة في الـ 15 من عمرها وشابين في 17 من أعمارهما برفقة والديهما الأفغانيين، فضلاً عن زوجين إيرانيين في العشرينات من أعمارهما”.
وأضاف: “سرنا بحذر وهدوء تام إلى الشاحنة العملاقة التي كانت تحمل فاكهة الكمثرى، فشعرت بالراحة قليلاً لأنه ليس براداً للحوم والأسماك التي قد تكون درجات حرارتها 18 درجة مئوية تحت الصفر، ولا يخبرنا به المهرب طمعاً بالمال، فيؤدي إلى موت من يركبها”.
يستجمع زهر الدين قواه ويكمل حديثه: “كان ذلك في يناير/كانون الثاني، البرد شديد .الظلام دامس، زحفنا على بطوننا واحداً تلو الآخر إلى داخل الشاحنة، حيث المساحة المتاحة لـ 22 شخصاً لا تزيد عن عرض مترين وطول 15 متراً، لكن الارتفاع لم يكن أكثر من (50 سنتمتر)، وبقينا مستلقين على ظهورنا دون حركة مدة 6 ساعات، كنا جميعاً متلاصقين في تلك الفجوة تحت صناديق الفواكه مثل أقلام الرصاص في علبة صغيرة، كان ممنوعاً علينا إصدار أي حركة أو صوت قد يؤدي إلى كشفنا، حتى السعال كانا ممنوعاً، كان علينا كتم أنفاسنا، وإلا سيُعاقب من يتسبب بفشل الرحلة بأشد العقوبات من قبل المهربين”.
وبعد مرور ست ساعات على إقفال الشاحنة المحملة، لم تتحرك من مكانها.
ويصف زهرالدين تلك الساعات الستة، “كنا نرتجف جميعاً، لا نرى وجوه بعضنا، السواد حالك، كنا فقط نشعر باهتزازات أجسادنا التي كانت ترتجف من شدة البرد لا إرادياً، وصرير الأسنان كان أشبه بضرب المطرقة على السندان، وحشرجات وأنين وتقطع في الأنفاس، وآلام لا تُحتمل، بدأ الأطفال بالسعال والعطاس، لم يكونوا قادرين على التنفس أو الجلوس، كان سعالهم الحاد وحشرجتهم تزيدني ألماً، لقد كانوا يحتضرون”.
يتوقف لدقائق ويقول بعد تنهيدة عميقة: “انخفضت درجات حرارة أجسادنا، وفقدنا الأمل، بالرحلة وبحياتنا، كنت فقط أفكر بالموت وأنا أسمع صوت أنفاس من معي، كانوا يصارعون الموت، بدأ الأطفال بالبكاء من شدة البرد والسعال، حقيقة لا تسعفني الكلمات في وصف حجم الألم الذي عشته أنا وغيري”.
وفجأة، فتح السائق الباب، بعد أن علا سعال الأطفال، وتفاجأ بوجودنا. كان ذلك بمثابة العودة من حافة الموت، نسينا حزننا على فشل الرحلة لأننا فرحنا بالقليل من الدفء والأوكسجين الذي حُرمنا منه، يقول زهرالدين.
“نزلنا نجر أجسادنا الثقيلة، لم نستطع حتى الزحف، كانت أطرافنا مشلولة تماماً”.
حملت سيارة الإسعاف النساء والأطفال والشباب إلى أقرب مركز طبي لتلقي العلاج اللازم، وعاد زهرالدين وآخرون مما بدوا أحسن حالاً إلى العشوائيات في كاليه مرة أخرى.
يقول زهرالدين: “عندما صعدنا كنا 22 شخصاً، لكن فقط 20 شخصاً خرج من الشاحنة، نظرت حولي، فعرفت أن الزوجين الإيرانيين تواريا في زاوية ما ولم ينزلا، وسارت الشاحنة إلى الميناء بعدها، ولا أعلم إن بقيا على قيد الحياة أم لا”.
و”لم يتسنَّ للمهربين معاقبة أحد في تلك المرة لأن المسببين كانوا اطفالاً، فضلاً عن اختفائهم من المكان، ربما ظلوا في العناية الطبية، لا أعلم ما جرى لهم ولوالديهم”.
في الليلة التالية، تم إخبار من بقي في المخيم بأن شاحنة نقل الخيار في طريقها إلى المملكة المتحدة هذه الليلة، وشجع المهربون كعادتهم من ينتظر التوجه إليها، إلا أنه وبعد تجربة الليلة السابقة، تراجع 14 شخصاً عن الرحلة ولم يصعد إلى تلك الشاحنة إلا ثمانية، من بينهم زهرالدين.
وعن الرحلة الأخيرة يقول زهرالدين: “مرت سبع ساعات، ولم تتحرك الشاحنة، كنا نصلي وندعو الله أن تسير الشاحنة قبل أن تنخفض درجة حرارة أجسادنا إلى مستوى خطير، كان الموت يسيطر على كل عقلي وتفكيري، كنت أتضرع إلى الله كي لا أموت متجمداً كفأر بين صناديق الخيار، وأبقى على قيد الحياة وأطمئن والدتي على صحتي، وألتقي بزوجتي ثانية، كانت سبع ساعات من الأمل الممزوج بالإحباط، كانت سبع ساعات في الجحيم، كنت أعيد شريط ذكريات الطفولة واللعب مع أصدقائي خلال أيام الدراسة في جامعة حلب والتحديات والقوة التي كنت أتباهى بها، كنت كمن يعيد شريط ذكرياته قبل الموت”.
وبعد سبع ساعات، انطلقت الشاحنة إلى الميناء، فعادت إليه وإلى من كان معه الروح من جديد، استجمع قواه ليقاوم أكثر رغم أنه كان قد فقد القدرة على تحريك قدميه، ووصل البرد إلى عظامه، وضاق تنفسه. كان زهرالدين يعلم بأنه دخل مرحلة انخفاض درجة الحرارة الجسد، إذ بدأت ضربات قلبه تتسارع وشعر بالانقباض في القلب، كان يأمل بألا يتوقف قلبه فجأة ويرى النور ثانية.
شاهد أحمد في الفيديو التالي ….
https://www.facebook.com/HejSverige2000/videos/393509341554007/
ويضيف” كنت أحتضر، رغم قوتي البدنية، وكان من معي أسوأ حالاً، كانت حشرجات تنفسهم تزيدني ألماً، كان ذلك أشبه بخروج الروح من الجسد، الكلمات تعجز عن وصف حالة الرعب التي عشتها في الدقائق الأخيرة، لم نعد قادرين على الكلام، كانت رجفة أجسادنا وصرير أسناننا، هي الأصوات الوحيدة التي كانت تُسمع”.
ويتابع بألم: “كادت مثانتي تنفجر، لم أستطع من شدة الألم التبول، وانتشر الألم في كامل جهازي البولي والتناسلي والكلى والظهر والقلب والمعدة والرأس والقدمين، كان ألماً لا يطاق، أدركت بأنني أقترب من الموت، وقررت أن أضرب رأسي بجدار الشاحنة متخلياً عن حلم الوصول إلى المملكة المتحدة ومختصراً إياه بقليل من الأوكسجين”.
ويتابع زهرالدين قوله: “كدنا نطير فرحاً رغم سوء حالنا عندما سمعنا صفارات سيارات الشرطة التي توقفت بجانب شاحتنا، بعد أن كنا على وشك الموت برداً لمدة عشر ساعات”.
حدث ذلك عندما استسلم زهرالدين وقرر التخلي عن حلم الوصول إلى المملكة مقابل القليل من الأوكسجين والدفء، استجمع كل قواه وبدأ بضرب رأسه ويديه بجدار الشاحنة، التي بدت واقفة عند إشارة حمراء حسب اعتقاد زهرالدين.
بدا أن السائق قد سمع الضجيج من داخل الشاحنة، ففتح الباب عليهم ورآهم، لكنه أغلق الباب بسرعة، عندها جزم زهرالدين ومن معه أنهم سيموتون بسبب عدم مبالاة السائق.
لكن يبدو أن السائق عندما رآهم، سار بالشاحنة إلى موقف ما واتصل بالشرطة، وبعد عشرين دقيقة، كانت قد أحيطت شاحنتهم بسيارات الشرطة.
ويصف فرحته بإلقاء الشرطة القبض عليهم قائلاً: “كان رجال الشرطة بالنسبة لنا في تلك اللحظة مثل ملائكة الرحمة، تحدثوا بالإنجليزية وأشاروا لنا بالنزول، زحفنا بأجسادنا الثقيلة على بطوننا، وساعدتنا الشرطة في النزول، يا إلهي، ها أنا أرى النور ثانية ومازلت حياً”.
أنزلتهم الشرطة بهدوء، اقتيدوا إلى مركز احتجاز، حيث تم سؤالهم عن هوياتهم وصحتهم بعد أن قدموا الطعام والشراب.
وفي سؤال بي بي سي الأخير لـــ أحمد فيما كان الوصول إلى المملكة المتحدة يستحق خوض مغامرة قد يموت خلالها صاحبها، يجيب قائلاً: “لو عاد الزمن بي إلى الوراء وعشت نفس الظروف التي عشتها في سوريا أثناء انتشار تنظيم الدولة ودمار مدينتي حلب ونزوح الأهل والويلات التي شاهدتها بأم عيني، لأعدت التجربة نفسها.
فموتي في البراد يكون مرة واحدة، أما في حلب، فكنت سأموت آلاف المرات في اليوم الواحد مع الدمار والحرب والموت الذي كنت سأعيشه في كل لحظة”.
وينهي حديثة قائلا: “ولكن لا أنصح أحداً بخوض المغامرة التي خضتها، فبقائي على قيد الحياة كان بمحض الصدفة، وإلا لكنت في عداد الأموات. ما حدث كان مريعاً ومؤلماً وقاتلاً”.