
انفجار بيروت: لماذا يتم استقبال الرئيس الفرنسي في لبنان استقبال “الأم الحنون”
لم يكن وصول الرئيس الفرنسي ماكرون للبنان ، و استقباله من مواطنين لبنانيين استقبال المنتظرين “للأم الحنون” غريبا ، رغم أن فرنسا دولة استعمارية للبنان، وقتلت الآلف من اللبنانيين في فترة الانتداب الفرنسي للبنان ..
ولكن لفرنسا في لبنان اسم مستعار هو “الأم الحنون”، يقال من باب السخرية حيناً، ومن باب الإشادة حيناً آخر، تبعاً لخلفيات القائل من المجتمع اللبناني . فالعلاقة مع فرنسا إشكالية كبيرة في لبنان بين محب وكاره ، ولم تحظَ يوماً بإجماع اللبنانيين.
في هذا السياق، لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العاجلة إلى بيروت أمس، غريبة، بل “خطوة طبيعية” نظراً لتعاطي فرنسا مع لبنان كأنه “حصتها” في الإقليم العربي الشرقي ، .

هذه ليست المرّة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان. فبعد التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، ركب جاك شيراك طيارته، وحطّ في بيروت لمواساة العائلة. وعند وفاة شيراك العام الماضي، ساد الحداد الإعلام اللبناني المحلّي، في استذكار “صديق لبنان الكبير”.
وليس غريباً أن يفاجئ آلاف اللبنانيين وسائل الإعلام وهم يقومون بتوقيع عريضة تطالب “بعودة الانتداب” الفرنسي للبنان ، فهناك جزء من الشعب اللبناني يشعر بارتباط ثقافي وحضاري مع فرنسا، ويعدّ ذلك من أوجه الخلاف التي أخذت مناحٍ دامية بين اللبنانيين بين منتمي للغرب ومنتمي للعمق العربي او الطائفي.
فمن الانقسامات التي مهّدت للحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، الخلاف على هوية لبنان، إذ كان اليمين اللبناني ينادي بفينيقيّته التي هي لا علاقة لها بالعرب والعروبة والاقرب لاوروبا والمسيحية ، فيما كان اليسار والتيارات القومية العروبية تنادي بعروبته. وبين الانتماء الطائفي للهوية
وبالطبع، كان لتلك الانقسامات أرضيّة طائفيّة، مع اعتبار السياسيين الموارنة خصوصاً، والمسيحيين عموماً، أنّهم يدينون بالولاء للغرب، وفي مقدّمته فرنسا. وفي أدبيّات التيارات الطائفية المسيحية، فإنّ فرنسا ستهبّ دوماً لحماية المسيحيين في لبنان من أيّ خطر وجودي. في حين يقف الثقل العربي والايراني لدعن هوية لبنان عربيا او طائفيا
وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ دعم فرنسا للبنان بدأ منذ القرن الثالث عشر، وقد أخذت فرنسا على عاتقها حماية الكاثوليك في لبنان في معاهدة وقّعت عام 1535، وتمتدّ المراسلات بين الملوك الفرنسيين والبطاركة منذ ذلك العهد.
الجنرال الفرنسي غورو خلال إعلان دولة لبنان الكبير في قصر الصنوبر عام 1920
وفي العام 1860، تدخلت فرنسا مباشرة لحماية الموارنة بحملة عسكرية كبيرة، خلال المواجهات الطائفية الدامية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان.

وبعد الحرب العالمية الأولى، ومع تفكّك الدولة العثمانية، اعترفت الدول المنتصرة بحقّ فرنسا بأخذ لبنان حصةً لها، بعد تقسيم تركة الإمبراطورية في المنطقة بين الاستعمارين الفرنسي والإنكليزي، وفق اتفاقية سايكس بيكو.
هكذا، كانت فرنسا هي من خلقت دولة لبنان الكبير، ايفاءً بوعدها للبطريرك الماروني الياس الحويك، في سبتمبر/ أيلول 1920، وهي المناسبة التي يعود ماكرون إلى لبنان الشهر القادم للاحتفال بها.
استمرّ الانتداب على لبنان حتى نيله الاستقلال عام 1943، ولم يغادر آخر عسكريّ فرنسي الأراضي اللبنانية حتى عام 1946. لكن قوانين لبنانية نافذة كثيرة، تعود لذلك العهد، ومنها قانون الجنسية الذي يحرم النساء اللبنانيات من منح جنسيّتهنّ لأولادهنّ.
وقد قاوم اللبنانيون الاستعمار الفرنسي، وكان جزء كبير منهم يرفضونه منذ بدايته. وبدأت فكرة الاستقلال تتبلور مع كتابة ما سمي بالميثاق الوطني اللبناني، والمطالبات بإعادة صياغة الدستور.
شهدت فترة الانتداب مراحل عنيفة، وتشير المصادر التاريخية إلى مواجهات أدّت إلى قتل عدد من اللبنانيين على يد الجنود الفرنسيين، وفي مدن مثل طرابلس وصيدا نصب تذكارية لهم.
وقبل أن يكون الانتداب واقعاً عسكرياً، كانت الثقافة الفرنسية عاملاً مؤثراً في لبنان، منذ القرن التاسع عشر، مع المدارس الإرسالية الفرنسية التي كان لها دور مهمّ، ولا يزال، في صياغة نخبة من المتعلّمين والمثقفين.
حتى اليوم، يعدّ المعهد الفرنسي مركزاً ثقافياً أساسياً في العاصمة اللبنانية، يتولّى تسهيل معاملات الطلاب اللبنانيين الراغبين بمتابعة تعليمهم في فرنسا، وهم كثر. كما يحتضن المعهد أحداثاً ثقافية عدّة، ويموّل أعمالاً فنية ومسرحيّات، ويعدّ من أبرز الداعمين للنشاط الفني على الساحة المحليّة.
تدار معظم المدارس الفرنكوفوية في لبنان، من قبل رهبنات تابعة للكنائس الكاثوليكيّة، وبعض أشهرها مدارس علمانيّة. ويتعلّم التلاميذ اللبنانيون اللغة الفرنسية كأنها لغتهم الأم الثانية، ويقدّم جزء كبير منهم الامتحانات الرسميّة في مختلف المواد باللغة الفرنسيّة.
كما يشتهر أدباء لبنانيون كثر بالكتابة اللغة الفرنسيّة، وبعضهم له وزن كبير على صعيد الأدب الفرنكوفوني عالمياً، من بينهم الشاعر اللبناني الكبير صلاح ستيتية الذي توفي قبل أشهر. ومن بينهم أيضاً الروائي الشهير أمين معلوف، وهو أوّل لبناني ينتخب في عضوية أكاديمية اللغة الفرنسية.
وتعدّ باريس محجاً لآلاف الطلاب اللبنانيين سنوياً، كما تعيش فيها جالية لبنانية كبيرة، وكذلك يعيش آلاف الفرنسيين في لبنان. وتدعم فرنسا قوات “اليونيفل” التابعة للأمم المتحدة بأكثر من 600 عنصر، كما تعدّ من أبرز الجهات المستوردة من لبنان.
لذلك ليس غريب ان يتم استقبال الرئيس الفرنسي في لبنان استقبال الأم الحنون !