من سوريا إلى غويانا الفرنسية.. سنوات مضت من عمرنا “ولم نصل إلى وجهتنا بعد”
من سبعة سنوات ، كان على السيدة ” أم مجد ” وأطفالها البحث عن حياة آمنة بعد أن قُصف منزلهم في ريف إدلب. ذهبت العائلة إلى لبنان وسئمت ظروف العيش فيها لذا قررت سلك طريق غير اعتيادي إلى إقليم غويانا الفرنسي في قارة أمريكا الجنوبية، مرورا بالبرازيل، أملا بالحصول على حق اللجوء والعيش في فرنسا. 7 سنوات مضت ورحلتهم لم تنته بعد.
تحت سماء زرقاء وأشجار لوز تلقي بظلالها على شاطئ يطل على مساحة منقطعة النظير من المحيط الأطلسي، تحاول أم أربعينية إيجاد بقعة من الظل تقي أطفالها من أشعة الشمس الحارقة، “نحن نتنزه هنا.. هكذا يبدو الأمر أليس كذلك؟”، تقول أم مجد بلهجة ساخرة قبل أن تضع قطعة قماشية على الأرض لتجلس عليها مع أولادها الـ6.
قُصف منزل عائلة أم مجد في ريف إدلب الجنوبي عام 2013.هربت العائلة المؤلفة من 12 شخصا والمتحدرة من منطقة معرة النعمان إلى لبنان.عاشت في مدينة طرابلس لست سنوات، وعانت من ظروف الحياة السيئة هناك، قبل أن تصل إلى غويانا الفرنسية، أحد أقاليم فرنسا وراء البحار في قارة أمريكا الجنوبية.
“كان علينا ترك كل شيء وراءنا. نهاية عام 2013، أخذت أولادي العشرة والتحقنا بزوجي الذي كان يعمل كباقي العمال السوريين في طرابلس اللبنانية.. فكرنا كثيرا بالهجرة لكننا عائلة كبيرة ولم نكن نرغب في خوض غمار البحر. إلى أن أخبرني ابن أختي عن إمكانية الحصول على تأشيرة إنسانية تمكننا من الدخول إلى البرازيل، ضحكت حينها وقلت له أتريدني أن أذهب إلى هناك لألعب كرة القدم؟”.
من لبنان إلى البرازيل أملا ببلوغ أوروبا
امتلأ وجه عائشة (22 عاما) بعلامات حروق الشمس، تجلس الشابة بصمت إلى جانب أمها التي لا تزال تسرد الحكاية. تقول إنها وزوجها أدركا أن الذهاب إلى القارة الأمريكية ربما يكون بوابة دخول إلى أوروبا، فالخطة تكمن بالوصول إلى إقليم غويانا التابع لفرنسا وتقديم اللجوء هناك، وبعدها الذهاب إلى فرنسا الأوروبية “فرنسا متروبوليتان”.
عزمت العائلة على سلك تلك الطريق، حصلت على تأشيرات دخول إلى البرازيل ووضبوا من فورهم ما استطاعوا من أغراض. “حاولنا البقاء في لبنان إلى أن فقدنا الأمل. تعرضنا للعنصرية والسلب والضرب حتى أن ابني محمد تعرض لحادث أليم أثناء عمله مع أحد الأشخاص في خدمات التنظيف وفقد السمع في أحد أذنيه. معاناتنا في لبنان دامت حتى آخر لحظة، حتى أنهم حاولوا عرقلة سفرنا وطلب أوراق لا داع لها في المطار”.
قبل يومين من رأس السنة، وصلت العائلة أخيرا إلى مدينة ماكابا البرازيلية، ثم اتجهت إلى نهر أويابوك الحدودي مع غويانا الفرنسية، “حاولنا عبور النهر لأول مرة مع 5 عائلات أخرى لكن الشرطة الفرنسية أوقفتنا وتعاملت معنا بعنف وعنصرية. عودوا من حيث أتيتم قالوا لنا. بصقوا علينا ورموا أغراضنا”.
يقترب إبراهيم (16 عاما) من والدته ويخرج هاتفه المحمول، “انظروا ماذا حصل عندما حاولنا العبور أول مرة.. كانت تجربة رهيبة وفقدت إحدى النساء وعيها”.لم تتوقع العائلة المصير الذي كان ينتظرها خلال رحلتها إلى غويانا، بعد أن قطعت آلاف الكيلومترات بحثا عن حياة آمنة ومستقبل أفضل للأطفال، “كلفتنا الرحلة 15 ألف دولار، استدنت المال من أقربائي وبعنا كل ما نملك حتى نصل إلى غويانا. وعندما فشلت محاولتنا الأولى في عبور نهر أويابوك شعرت وكأن الدنيا ضاقت بي.. كابوس مريع هذا ما أستطيع قوله”.
عادت أم مجد وأطفالها إلى المنطقة الحدودية ودفعوا ما تبقى لديهم من مال أجرة فندق لأخذ قسط من الراحة، وبعد 3 أيام قرروا تجربة حظهم مرة أخرى، “استطعنا العبور هذه المرة من دون مشاكل وذهبنا على الفور إلى العاصمة كايين على متن حافلة”.
لم تقترب رحلتهم من نهايتها، رغم وصولهم إلى الأراضي الفرنسية أخيرا “أمضينا نحو شهرين مشردين على الشاطئ أنا وأطفالي التسعة. كانت تمطر دون توقف ولم نملك سوى خيمة صغيرة نحتمي بها”. بالنسبة إلى العائلة، كانت فترة إقامتهم الأولى “لا تصدق” خصوصا أن عائشة وأخيها الأصغر يعانيان من تأخرعقلي وبحاجة إلى عناية خاصة.
“عذرا حان وقت تبديل مكان نزهتنا”، تضحك الأم وهي تطلب من أولادها الرجوع بضعة أمتار إلى الخلف حيث توجد بقعة أكبر من الظل، وتكمل الحديث “المهم أننا استطعنا تخطي تلك المحنة وحصلنا أخيرا على شقة عن طريق منظمة الصليب الأحمر، وقدمنا طلب اللجوء”.
في عاصمة الإقليم كايين، لا توجد مراكز استقبال مخصصة لطالبي اللجوء “كادا” كما في فرنسا. يبدو الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة إلى طالبي اللجوء الذين يتشردون في الشوارع أو في الضواحي القريبة ضمن مخيمات عشوائية، خصوصا وأن غويانا تقع في منطقة استوائية ذات مناخ حار وماطر.
حصلت العائلة على حق اللجوء ، كان الخبر سارا لكنه حمل في طياته مساوئ جمة “شعرنا بالراحة في الشقة وبدأت أمورنا تتحسن وحصلنا على أوراق الإقامة، لكن السكن الذي أقمنا فيه مخصص لطالبي اللجوء فقط، وبالتالي لم يعد بإمكاننا البقاء هناك، بعد أن حصلنا على حق اللجوء”.
استطاعت العائلة البقاء في المنزل لأربعة أشهر إضافية لكن منذ حوالي أسبوع عادت إلى حياة التشرد من جديد، أجبر الأفراد على الخروج من شقتهم ولم يكن في استطاعتهم تأمين سكن.”يقولون إنه علينا استئجار شقة بمفردنا، لكن كيف نفعل ذلك ونحن عائلة كبيرة مع أطفال ولا نتكلم اللغة الفرنسية؟ لا أحد يقبل بنا”.
وهكذا تمضي العائلة أيامها في الشارع دون مأوى، “نذهب أحيانا للاستحمام عند إحدى العائلات السورية هنا ولكن لا نستطيع البقاء عندهم لأن الصليب الأحمر يمنع على طالبي اللجوء استقبال أشخاص آخرين في المنزل.. هذا هو القانون..”.
القانون يفرض أيضا على مكتب “الهجرة والاندماج” الفرنسي (أوفي) مساعدة اللاجئين على الانخراط في المجتمع الجديد، وأم مجد عليها أن تحضر دورة لتعلم اللغة الفرنسية “أستفيد من دوامي في معهد اللغة لاستخدام الحمام وقضاء حاجتي”، تقولها بأسف قبل أن تكمل “أريد تعلم اللغة الفرنسية وأحاول أيضا نقل كل الكلمات الجديدة التي أتعلمها إلى زوجي وأطفالي الذين لم يتسن لهم بعد الذهاب إلى المدرسة”.
تحاول أم مجد كبح دموعها، لكن الأخيرة تنهمر غير مكترثة، ليست الصعوبات التي تواجه أم مجد في غويانا، هي وحدها ما يثقل كاهلها “ابنتي الكبيرة تبلغ 26 عاما بقيت في لبنان مع زوجها وأولادها الثلاث، ومنذ أن سافرنا وهي تتعرض للضرب المبرح يوميا على يد زوجها. لا يوجد أحد قادر على مساعدتها لطلب الطلاق هناك .. أخاف عليها وعلى أحفادي الصغار.. حياتهم معرضة للخطر ولكن ما باليد حيلة”.
تفتح أم مجد حقيبتها القماشية، تُخرج عبوة مياه بلاستيكية، لتبل عروقها بعد الحديث الطويل. تشرب قليلا ثم تطلب من أحد أولادها الذهاب لإعادة تعبئتها من أحد البيوت المجاورة. فلا توجد نقاط مياه ولا مرافق عامة حيث يجلسون. ليس هنالك سوى مرحاض عمومي واحد غالبا ما يكون خارج الخدمة.
“لا مجال للتفكير بالبقاء في غويانا بعد كل هذه المعاناة. نريد الذهاب إلى باريس، فالوضع هناك أفضل ونأمل بأن تنتهي رحلتنا المستمرة من سنوات طويلة . لقد تعبنا”.