قصة امرأة مهاجرة .. من تركيا الي فرنسا الي بريطانيا ..ثم صدمة في نهاية الرحلة
“وفاء ” امرأة عراقية وابنتها جنا* في مخيم غراند سينث شمال فرنسا عام 2015. بعد عامين، تمكنت وفاء مع عائلتها من نيل حق اللجوء في بريطانيا. وريثما تكبر جنا* ونسرين*، ابنة وفاء الثانية والتي ولدت في بريطانيا، تحاول وفاء التأقلم مع حياتها الجديدة كلاجئة في المملكة المتحدة.
عندما تتحدث جنا، لا يمكنك للمستمع إليها أن يصدق أنه قد مر على وجودها في بريطانيا عامين فقط. فالطفلة الصغيرة تتحدث بلهجة الشمال الإنكليزي وكأنها ولدت في تلك المنطقة. جنا لا تتذكر الأيام التي قضتها مع أمها في مخيم الغابة في كاليه شمال فرنسا.
عند سماعها اسم مخيم الغابة، قفزت جنا “أمي، هل هذا هو المكان الذي كنا نعيش فيه”، تقول الطفلة الصغيرة جملتها وهي تتسلق الكنبة في غرفة الجلوس، “أمضينا عطلتنا هناك أليس كذلك؟”.
تحمل ابنتها جنا عبر الوحول المحيطة في الخيم بمخيم غراند سينث شمال فرنسا. الصورة التقطت عام 2015.
وفاء*، والدة جنا تجيب الطفلة الصغيرة “نعم” ببسمة حزينة.
تتذكر والدة الطفلة الأشهر الستة التي أمضتها في الغابة، بكافة تفاصيلها الثقيلة. تتذكر وفاء صراعها مع الوحول المتجمدة وهي تحمل جنا. تتذكر الليالي الطويلة حين كانت عائلتها تتكوم فوق بعضها في زاوية بنتها بواسطة ثياب قديمة وبطانيات مهترئة، كما تذكر الليالي الطويلة عندما كانت ابنتها تبكي من البرد وهي لا تستطيع القيام بأي شيء لمساعدتها.
قد تكون وفاء، اللاجئة الكردية من العراق، وعائلتها قد حصلوا على بعض الراحة لحظة حظوا بحق الإقامة على الأراضي البريطانية لمدة خمس سنوات، إلا أن ذكريات الغابة أحدثت ندوبا عميقة في جسدها كما في نفسيتها جعلت من الصعب نسيان تلك التجربة.
“رأيت الكثير خلال حياتي”، تقول الأم اللاجئة وهي تهز برأسها.
رحلة اللجوء
قبل بضعة سنوات، كانت وفاء وعائلتها يعيشون في قرية غاور شمال الموصل. لدى وفاء ستة أخوات، جميعهن معلمات، حتى هي كانت تعمل في مجال التعليم.
كل شيء تغير لحظة وصول تنظيم “الدولة الإسلامية” الإرهابي. فبعد سيطرة ذلك التنظيم على الموصل، خشي سكان غاور من أن قريتهم ستكون التالية. “لم أستطع النوم خلال تلك الفترة”، تقول وفاء، “كنت أخشى من أنني لو أغمضت عيناي سأصحو لأجد التنظيم الإرهابي قد احتل القرية”.
لم تكن وفاء قد فكرت من قبل بالرحيل، ولكن خلال تلك المرحلة كان الخوف يسيطر على الجميع. القرية كانت بحالة فوضى، والناس كانوا يتراكضون بكافة الاتجاهات هربا من تنظيم “الدولة الإسلامية”. حينها كانت الوالدة الشابة متأكدة من أنها يجب أن تهرب بابنتها بعيدا قبل فوات الأوان.
في تشرين الأول / أكتوبر 2015، أخذت جنا وزوجها وحيد* ابنتوفاء البالغة من العمر حينها ثلاث سنوات وهربوا. عبروا الحدود نحو تركيا ثم اليونان، ثم اجتازوا أوروبا وصولا إلى كاليه حيث كانوا يأملون باستكمال رحلتهم إلى بريطانيا.
في البداية أبلت جنا بشكل جيد على الرغم من الظروف الرهيبة للرحلة، إلا أنها خلال الرحلة الطويلة، فقدت الطفلة غطاءها المميز. بحثت وفاء عنه ولكن دون جدوى. كان ذلك الغطاء هو شبكة الأمان للطفلة الصغيرة التي راحت تبكي وتصرخ مطالبة به.
عندما وصلت العائلة إلى فرنسا، اكتشفوا أنهم قد صرفوا كل ما بحوزتهم من مال، ما يعني أنهم لا يملكون مالا لدفعه لأحد المهربين لينقلهم إلى بريطانيا، علقوا في كاليه. تنقلت العائلة بين مخيمي كاليه وغراند سينث شمال مدينة دنكيرك لمدة ستة أشهر، في ظروف معيشية صعبة.
ومع انخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر، كانت وفاء تحمل ابنتها وتبدأ بجولة على خيم المتطوعين هدفها أن تلهي نفسها عن البرد القارس.
تساءلت وفاء حينها “هربنا من بطش التنظيم الإرهابي لنصل هنا، لنعلق في البرد القارس والوحول المتجمدة. هل هناك مصير أسوأ من هذا؟”.
في النهاية كانت الطفلة الضحوكة هي من أنقذت العائلة.
جنا كانت حينها تبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط، تتكلم مع الجميع في المخيم، حتى المتطوعين الذين كانوا يحضرون للمخيم لمساعدة اللاجئين. أحد أولئك المتطوعين أشفق على العائلة وأعطاهم جزءا من المبلغ الذي كانوا يحتاجونه للعبور إلى بريطانيا.
مع ذلك المبلغ، أصبحت العائلة تملك الأموال المطلوبة للعبور. وحيد قل إن المهرب تقاضى منه ثمانية آلاف جنيه إسترليني مقابل تهريبهم. في إحدى ليالي أيار/مايو 2016، أخذهم أحد المهربين إلى شاحنة متوقفة في مرآب قريب وأدخلهم إليها. كان على العائلة أن تبقى في تلك الشاحنة لمدة 17 ساعة متواصلة.
وفاء كانت مريضة خلال الرحلة. فقبل عدة أسابيع اكتشفت أنها حامل، وخلال الساعات الطويلة التي قضتها في الشاحنة اعتقدت أنها ستموت، شعرت أنها لا تستطيع التنفس. وقد لازمها ذلك الإحساس الفظيع حتى الآن، “ما زلت أفكر بتلك اللحظات”.
الوصول للمملكة المتحدة
ما إن وصلت العائلة إلى بريطانيا حتى تم إرسالهم إلى أحد مراكز إيواء طالبي اللجوء الحكومية. في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 ولدت الطفلة الثانية للعائلة، نسرين. رفضت السلطات البريطانية طلب اللجوء الذي تقدمت به العائلة، إلا أنه عقب الاستئناف نالت العائلة حق اللجوء لمدة خمس سنوات.
إجمالا هذا يعني أنه على العائلة أن تقدم طلب لجوء مرة ثانية بعد خمس سنوات. حتى نسرين*، التي ولدت على الأراضي البريطانية، سيتوجب عليها الحصول على حق اللجوء كونها ولدت لأبوين أجنبيين.
تقول وفاء إنها تشعر وكأنها تعيش في دوامة وسط قلق دائم، فخلال خمس سنوات قد تتم إعادتهم إلى العراق. إلا أنه على الرغم من ذلك، تسعى وفاء لبناء حياة في بريطانيا.
وفي إطار سياسة توزيع اللاجئين بشكل متساو بين كافة المناطق في المملكة المتحدة، تم إرسال وفاء وعائلتها إلى مدينة شمال البلاد، حيث كانت صناعة الخزفيات مزدهرة في مرحلة ما. وتعيش العائلة في المدينة التي تضم نحو 250 ألف نسمة في منزل إيواء قديم يحتاج للصيانة. تقول وفاء إنها مسرورة لأنها تعيش في محيط آمن، “إلا أنها لا تشعر بأنها في وطنها”.
العائلة اللاجئة الوحيدة في المنطقة
جنا هي الفتاة اللاجئة الوحيدة في مدرستها. ووفقا لوالدتها، فإن عائلتهم هي العائلة الوحيدة اللاجئة في المنطقة.
“في البداية، كان السكان هنا ينظرون إلينا بشكل غريب. ولكن الآن الوضع أفضل. إحدى جاراتي دعتني لشرب الشاي لديها”، تقول وفاء.
مع ذلك، مازالت وفاء تشعر بالعزلة. ففي العراق، كانت تعمل وكان لديها حياة اجتماعية نشطة. أما هنا، فهي تبقى في المنزل طوال الوقت.
ليس لديها أي صديقات كرديات هنا، أغلب نشاطها الاجتماعي يقتصر على لقاء امرأة تعرفت عليها أثناء عملها كمتطوعة في مخيم الغابة.
كثرت المشاكل مؤخرا بينها وبين زوجها وحيد، وهي تعتقد أنه عندما تكبر البنتان سينفصلان.
تنام وفاء يوميا بين ابنتيها. تقول إنها تشعر بتعب شديد بشكل دائم وتعتقد أنه لو أتيحت لها الفرصة ستنام لمدة أسبوع. إلا أنها لحظة ملامسة رأسها للوسادة، يطير النوم من عينيها.
“امرأة حزينة”
على حائط الممر الداخلي للمنزل، رسائل ووصفات طبية، فنتيجة حملها لجنا إضافة لحقيبة ثقيلة طيلة فترة رحلة اللجوء، أصيبت وفاء، وهي في الـ35 من العمر، بآلام مزمنة في ظهرها وركبتها. وقد تمكنت منها الآلام لدرجة أنها طلبت من السلطات أن تنقلها وعائلتها إلى منزل آخر من طبقة واحدة كونها تلاقي صعوبة في صعود الدرج إلى الطبقة الثانية من المنزل.
نسرين ابنة هما الثانية، ولدت في المملكة المتحدة، ومع ذلك سيتوجب عليها طلب اللجوء مع عائلتها كونها ولدت لأبوين أجنبيين.
وكما ذكرياتها المريرة، توقظها آلام ظهرها من نومها. خلال النهار تبدو وفاء سارحة هائمة ونظرات الهم تعلو محياها.
“أحيانا أشعر أنني مجنونة”، تقول وفاء خلال وصفها للذكريات التي تعصف بمخيلتها أحيانا.
عندما تشعر بالحزن أو الكدر، تنظر إلى الأشجار الخضراء خارج منزلها من شباك المطبخ. تشتاق للأشجار في قريتها في العراق.
تختم وفاء قائلة “أريد أن تمضي جنا ونسرين أيام وفاء بسعادة… هنا في المملكة المتحدة لديوفاء حياة أفضل… أعتقد أنني سأبقى دائما امرأة حزينة”.
*تم اعتماد أسماء مستعارة لكل أفراد العائلة حفاظا على خصوصيتهم.