القصة المنسية ..هكذا لجأ الأوروبيون لدول عربية وشرق أوسيطة
قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وقبل وجود أجهزة التلفزيون الحديث وكاميرات الهواتف الذكية .. كانت هناك قصة منسية … عشرات الآلاف من اللاجئين يعبرون المتوسط هرباً من نيران الحرب العالمية الثانية ، وقد تمكن أولئك الأوروبيون المحظوظون الذين لم تبتلعهم مياه البحر المتوسط من الوصول أخيراً إلى مخيمات اللجوء، في دول غريبة، يتحدث سكانها لغةً مختلفة، ويتبنون عادات وتقاليد مختلفة.
كلا، لا نتحدث عن اللاجئين السوريين ولا العراقيين ولا اليمنيين أو الفلسطينيين الذين قصدوا أوروبا عن طريق البحر هرباً من الحرب، بل نتحدث عن آلاف الأوروبيين من إيطاليا واليونان وفرنسا وبلغاريا والنمسا ،وبولندا وبلجيكا ، ودول البلقان، الذين فروا إلى الشرق الأوسط، بعد اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية. فاستقبلتهم مخيمات في سوريا ومصر وفلسطين وإيران والمغرب العربي ، حتى أن مدن مثل الإسكندرية في مصر كان لا يخلوا شبر فيها من وجود “خواجه” لاجئ أوروبي ، لقد عملوا في البقالة وفي الحلاقة وخياطة الملابس وفتح المتاجر وغيرها من المهن اليدوية .
مع بداية الحرب العالمية الثانية، تسارعت الأحداث في دول أوروبا ، فتم احتلال اليونان وفرنسا وبولندا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وغيرها من دول أوروبا من قبل الجنود الألمان، كما أن احتلال فرنسا في 1939 ، وإيطاليا في العام 1943 ،وقصف بريطانيات وملاحقة اليهود في أوروبا أدى لانطلاق أكبر موجة لجوء أوروبية إلى الشرق الأوسط العربي … فتدفق الفرنسيين والإيطاليين واليونانيين وغيرهم لمدن دول المغرب العربي وسوريا ولبنان. وتدفق الانجليز واليهود لمصر والعراق وفلسطين ،
وقد هاجر الأوروبيون من خلال ممرات بحرية آمنة نظمتها القوات المتحالفة ضد ألمانيا وتم إجلاء مئات الآلاف من اللاجئين الاوربيين في اتجاه دول الشرق الأوسط إلى معسكرات اللجوء.
لاجئين أوروبيون في سوريا
وبعد تصاعُد موجة التصفية العرقية النازية لليهود والغجر والشيوعيين في المناطق المحتلة في أوروبا، تزايدت أعداد اللاجئين بشكل خرج عن السيطرة وزاد عن حدود استيعاب مخيمات اللجوء في الشرق، وهو ما دفع السلطات البريطانية إلى إغلاق الممر البحري في وجه اللاجئين.
في العام 1942 نظّمت بريطانيا ما يُعرف بـ”إدارة الشرق الأوسط لإغاثة اللاجئين”، وكانت القاهرة مقراً لتلك المنظمة، التي تسلمتها الأمم المتحدة منذ العام 1944.
لاجئين أوروبيون في مصر
ساعدت هذه المنظمة ما يقارب 400 ألف لاجئ بولندي ويوناني وإيطالي ويوغوسلافي، ونظمتهم في مخيمات انتشرت في مصر وجنوب فلسطين وسوريا.
في البداية تم افتتاح مخيمات في منطقة الشط و الجطاطبة في مصر، وقد ضمت هذه المخيمات آلاف الهاربين من يوغوسلافيا من صرب وكروات وسلوفينيين، بالإضافة إلى اليونانيين والألبان والبلغار والبولنديين وإيطاليين .
ومع تزايُد أعداد اللاجئين اتسعت رقعة المخيمات في مصر لتشمل سواحل البحر الأحمر، والعريش في سيناء، والعامرية في الإسكندرية.
لاجئين أوروبيين في في مدن مصرية
أما في سوريا، فقد كانت حلب ملاذاً لليونانيين المهجرين من تركيا بعد الحرب التركية اليونانية منذ العام 1923، وقد تضاعفت أعداد هؤلاء اللاجئين بعد موجة النزوح الكبيرة التي عصفت بأوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية.
كما فتحت فرنسا مخيمات متخصصة لمئات الآلف من الفرنسيين في الجزائر ، ودول المغرب العربي بل أن حكومة فرنسا انتقلت كاملاً للجزائر بعد أن أحتلت ألمانية النازية لفرنسا في 1939
وشاركت إيران كذلك في استقبال عشرات الآلاف من البولنديين الذين فروا من المذبحة النازية ومعسكرات العمل السوفيتية.
لاجئين هولنديين يصلون لموانئ لبنانية وفلسطينية وسورية
إذ تشير التقديرات إلى أن حوالي 300 ألف بولندي وصلوا إلى إيران بين عامي 1939 و 1941، بعد نجاحهم في العبور إلى الشواطئ الإيرانية عبر بحر قزوين، وقد استُقبلوا بأذرع مفتوحة في بلاد فارس.
لم تكن عملية استقبال اللاجئين في مصر وسوريا وفلسطين عشوائية، فكلما تصل دفعة جديدة من اللاجئين يتوجهون في بداية الأمر إلى مراكز طبية أنشئت خصيصاً للاجئين، وهي في الغالب عبارة عن مخيمات أو مبان فارغة.
لاجئتين يونانيين وبولنديين استقبلتهم سوريا
وبعد أن يتلقى اللاجئون العناية الطبية اللازمة ويستعيدون عافيتهم من مشقة الطريق، يصبحون جاهزين للانضمام إلى المخيمات.
إذ يتم تقسيم اللاجئين إلى مخيمات للعائلات والأطفال غير المصحوبين بذويهم، وأخرى للرجال غير المتزوجين والنساء غير المتزوجات.
وذلك بعد أن يحصل كل منهم على بطاقة تعريفية تضم اسمه وحالته الاجتماعية ومستواه التعليمي ومهنته، ومعلومات أخرى عن تاريخ الوصول ورقم جواز السفر.
لم تكن حياة اللاجئين في المخيمات برفاهية ، لكنها لم تكن سيئة .. حيث كان يتم تقديم السكن والملابس والعلاج والطعام والتعليم والمساعدات لهم ، كم تم بناء ملاعب للأطفال ومناطق للترفيه خاصة باللاجئين كما كانت تقدم وجبات الطعام اليومية، بما يتناسب مع عادات وتقاليد كل فئة وجنسية في بعض المخيمات.
وفي حين مارس أصحاب المهن من اللاجئين مهنهم لكسب عيشهم بأنفسهم في بعض المخيمات، كان لاجئون آخرون يتعرضون لظروف عمل قاسية في مخيمات أخرى حيث لا عمل يستطيعوا القيام به مع صعوبة اللغة
أما بالنسبة للتعليم، فقد عانت المخيمات من نقص الكادر التعليمي مقابل وجود عدد كبير من الطلاب مع ملاحظة أن مصر وسوريا الكبرى التي تضم لبنا وفلسطين ومدن شمال أفريقيا كانت في حالة حداثة ومدنية جيدة مقارنتا بدول اسيا وافريقيا ..وأفضل من أوروبا الشرقية .
كان الوضع التعليمي في بعض المخيمات أفضل من غيرها، ففي مخيم النصيرات في فلسطين، على سبيل المثال، لم يكن هناك العديد من المشاكل كنقص المدرسين واكتظاظ الطلاب.
كما كان الأعيان والتجار والفنانين في الدول العربية سوريا الكبرى وفلسطين ومصر ينظمون حملات للتبرع للاجئين الأوروبيون في المخيمات وتوفير الألعاب للأطفال، وهو ما جعل بعض المدارس التي تم انشاءه توصف من قبل المسؤولين على أنها تقارن بالمدارس الأجنبية التي كانت بدات تنتشر في مصر وسوريا وفلسطين
بعد انتهاء الحرب، عاد العديد من اللاجئين الأوروبيون في الشرق الأوسط إلى بلادهم الأصلية، ولا يزال الناجون منهم يحملون ذكريات اللجوء بينما فضل البعض منها البقاء خصوصا في مدينة الإسكندرية في شمال مصر .
وبالرغم من التجربة التي ذاقها اللاجئون الأوروبيون بعد إجبارهم على ترك بلادهم هرباً من الحرب، لا نجد تعاطفاً كبيراً مع اللاجئين الجدد اليوم ، رغم أن الفرق لومني لا يتجاوز 70 عاماً. حيث أن الدول المرحبة باللاجئين في أوروبا قليلة مثل السويد وألمانيا
فمع تدفق اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب إلى الدولة الأوروبية، ترفض بعض الحكومات استقبالهم مثل حكومة بولندا اليمينية، التي تعارض بشدة إيواء أي لاجئ سوري، بينما تعرقل حكومات أخرى إكمالهم لرحلة اللجوء مثل الحكومة اليونانية والمجرية والتشيكية التي تحاول منع اللاجئين من عبور أراضيها لإكمال طريقهم…
في المقابل تضع دول الغربية العراقيل أمام قبول اللاجئين القادمين من دول الصراعات مثل اليمن والعراق وليبيا وسوريا أيضا .. ولكن لا يمكن تجاهل وجود دعم ومساعدات إنسانية ضخمة قامت بها دول أوروبية وفي مقدمتها ألمانيا ، ودول لا زالت تستقبل لاجئين يبحثون عن فوائد الاقتصادية ..ولكن يظل التاريخ يحمل ذكريات من الماضي تتكرر في المستقبل ، فــ اللاجئين بالأمس ليسوا لاجئين اليوم … ولاجئين المستقبل ربما يكون غير لاجئين اليوم ! .