السويد من حماية البط إلى أحضان العنف
يُلاحَظ لدى عبور جسر أورسنبرو الذي يربط العاصمة الدنماركية كوبنهاغن بمدينة مالمو جنوب السويد تكثيف الشرطة دورياتها بدرجة أكبر منذ 2015 وحتى يومنا الحالي …
ويترافق ذلك مع نظرات متوترة للعناصر الأمنية التي تنفذ إجراءات مشددة في فحص الداخلين إلى السويد تحديداً، ليس فقط بسبب إعادة تطبيق الإجراءات الحدودية إثر موجة اللجوء الكبير عام 2015، بل بسبب اعتقاد الشرطة السويدية بوجود حركة للجريمة نشطة للجريمة المنظمة تعبر الحدود للسويد
وفي أحد مراكز التسوق وسط مالمو الذي تحرسه دوريات الشرطة، يقول المواطن السبعيني الفلسطيني الأصل منصور العمري “لم تعد السويد كما عرفناها قبل 20 أو 30 عاماً. تغيّر الشارع، وبات التوجس أكبر من مواطني الأصول المهاجرة، في وقت يتسابق السياسيون في إظهار التشدد معهم”. يضيف: “حين حضرت للعمل في مصنع للسيارات في السبعينيات، كانت السويد تعكس فعلاً سمعتها في العالم كدولة رعاية ورفاهية تضم مجتمعاً منفتحاً على كل الثقافات، ويتحلى بتفهم وتسامح كبيرين”.
ويؤكد أشخاص كثيرون قدموا إلى السويد قبل 7 أو 8 سنوات، ويعيشون خصوصاً في مناطق ذات غالبية من أصول مهاجرة ولاجئة، بسبب تعقيدات الحصول على شقق في أماكن أخرى، أو بسبب رغبتهم في تخفيف آثار الاغتراب عنهم، أنّ نمط “العيش المثالي” تغيّر، حتى أنّ بعضهم يبدون ندمهم من اختيارهم العيش في هذه الضواحي التي تعاني اجتماعياً، ويبدو بعض أطرافها معزولة عن بقية مجتمعات السويد.
ويؤكد الناشط السياسي في الحزب الاجتماعي الديمقراطي الحاكم يوهان سيمونسون، أنّ “مطلب فرض القانون والنظام بات أولوية في المجتمع، وتغلّب حتى على مخاوف ارتفاع تكلفة المعيشة وتراجع دولة الرفاهية، فأخبار القتل والعنف تهيمن على النقاش العام، وتزداد حدتها مع اقتراب الانتخابات البرلمانية”. وقبل دعوة نحو 7.5 ملايين مواطن من أصل أكثر من 10.5 ملايين نسمة، للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع في 11 سبتمبر/ أيلول الجاري، من اجل انتخاب ممثليهم في البرلمان، باتت قضايا الجريمة المنظمة في مقدمة أولويات الشارع.
طفح الكيل
وكان 19 أغسطس/ آب الماضي شكل موعداً لتحويل النقاش في السويد، حين قال كثيرون إن “الكيل طفح من انتشار العنف، وإن الوقت حان للتصرف”. ففي هذا اليوم قتل رجل ثلاثيني برصاص أطلقه مراهق في الـ15 من العمر في مركز تسوق بمدينة مالمو، وكلاهما كانا على علاقة بعصابات.
وأججت التغطية الإعلامية الفورية والمكثفة المشاعر، خصوصاً أنّ الهجوم أدى إلى استنفار أمني ضخم، وتوافد سيارات الشرطة والإسعاف إلى الموقع، وهو جاء بعد أسابيع قليلة من إطلاق شاب دنماركي النار داخل مركز تسوق فيلدز بالعاصمة كوبنهاغن، ما أدى إلى مقتل وجرح متسوقين.
بالطبع لم يكن هجوم مالمو الوحيد الذي بث الذعر في نفوس مواطني أكثر مجتمعات الشمال الأوروبي مسالمة وأمناً قبل عقود قليلة، فصورة وواقع البلد الإسكندنافي تغيّرت من تقديمه بأنه بلد الحريات والديمقراطية، ومساعدة شرطته البط في عبور شارع أو إنقاذ حيوانات، إلى التعامل مع حروب تشبه تلك التي كانت تشنها عصابات مدينة شيكاغو الأميركية مطلع القرن العشرين.
وتحتدم منذ نحو 10 سنوات في السويد ما يطلق عليه اسم سلبيات الهجرة وفشل الاندماج و “احتراب عصابات الممنوعات”. وتقدر السلطات انتشار عشرات العصابات في المدن والضواحي، خصوصاً غربي البلاد، وتجنيدها آلافاً من المراهقين بسهولة، ومساهمتها عملياً في جعل المواطنين، وبينهم مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين، في حالة قلق غير مسبوقة على مصيرهم ومصير أسرهم في بلد لجوئهم ومهجرهم بحثاً عن حياة أفضل.
ولا تخلو وسائل الإعلام السويدية، من أخبار إطلاق النار أو إيجاد عبوة ناسفة، في سياق تنافس العصابات على أسواق المخدرات والممنوعات، رغم أن بعض الضحايا مجرد عابري سبيل لا علاقة لهم بعالم الجريمة، ومنهم سكان الضواحي الأكثر ضعفاً وهشاشة.
وحتى منتصف العام الحالي، شهدت استوكهولم 23 حادث إطلاق نار أسفرت عن 5 قتلى و5 جرحى، ومالمو (جنوب) 17 حادث إطلاق نار أوقعت قتيلين و3 جرحى. وتطول قائمة المدن وحتى الأرياف التي نقلت العصابات “أعمالها” إليها، حيث ترصد السلطات مئات من حوادث إطلاق النار (نحو 360).
ويبدو أن حصيلة 48 قتيلاً حتى أغسطس/ آب الماضي، ستجعل السويد تضرب رقماً قياسياً في العنف، وتثبت تصدر البلد قائمة دول الاتحاد الأوروبي للدول الأكثر احتضاناً لقتلى حوادث إطلاق النار.
ويورد تقرير أصدره “مجلس منع الجريمة” السويدي ربيع العام الحالي، أن “السويد باتت الدولة الوحيدة في أوروبا التي زاد فيها العنف المميت باستخدام الأسلحة النارية منذ عام 2000، في مقابل تراجع هذا الرقم في دول أخرى، مثل الدنمارك التي سقط فيها 36 قتيلاً خلال 5 سنوات بعد أن طبقت سياسة تشديد الهجرة “.
وتخبر الباحثة الاجتماعية في حياة سكان الضواحي، ليندا ستروم، ، أن المشكلة التي يواجهها السكان “هي شعورهم بأنهم رهائن بين العصابات، والدعوات إلى التشدد مع المهاجرين. وتظهر شهادات بعضهم مدى الإحباط الذي يشعرون به من تدهور الأوضاع في السنوات الأخيرة”.
وليس “ديمقراطيو السويد” وحدهم من يستغلون فرصة قلب الموازين، خصوصاً أن الاستطلاعات تجعلهم “بيضة القبان” لحكم يمين الوسط في المستقبل.
سمعة متراجعة
وفي ما يبدو أن سمعة السويد كبلد مضياف استقبل نحو 200 ألف لاجئ في عامي 2014 و2015، وترحيبه بهم كمواطنين جدد، بدأت تتلاشى مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية، سارعت أحزاب إلى الاستجابة بسرعة لمتغيّرات الشارع القلق من انتشار الجريمة المنظمّة، وأطلقت حملاتها الانتخابية بشعار تطبيق “النظام والقانون” على سلم الأولويات، بدلاً من حلّ مشاكل دولة الرفاهية، وتقليص الهوة بين الفقراء والأثرياء.
وبحسب ما يجري الترويج له، حتى من يسار الوسط، سيذهب البرلمان القادم إلى مشاريع دمج أخرى وسياسة هجرة مختلفة، مع تقديم مقترحات مثيرة للانتباه حول حياة سكان الضواحي، بينها بدء الدمج منذ الصغر، عبر برنامج “المسح اللغوي للأطفال منذ سن العامين”، علماً أن دراسات رسمية توصلت إلى أن “الصغار في التجمعات السكنية الأكثر هشاشة اجتماعياً يتكلمون لغة سويدية لا تتوافق مع غيرهم من الأطفال السويديين، فيما يعاني الكبار من غياب تعلم اللغة لسنوات، والاكتفاء بالعيش على نظام الإعانة الشهري”.
ويلحظ المقترح الخاص باللغة تنفيذ السلطات الاجتماعية مسحاً لأطفال الضواحي منذ سن 5 أعوام لفحص، واكتشاف ما إذا كانوا يعانون من “اضطرابات فرط الحركة ونقص في الانتباه”. وكشفت المقترحات أيضاً عن تشديد عقوبات الانتماء إلى العصابات، بغض النظر عن العمر، وتأسيس “سجل حمض نووي” لكلّ متورط في أي مخالفة قانونية، خصوصاً من مراهقي الضواحي.