السعودية : ليست دولة متجانسة ولا كيان واحد .. هي أقاليم متعددة تختلف في المذهب والانتماء

اعتاد الباحثون والكتاب النظر إلى المملكة العربية السعودية كـ”دولة متجانسة” Homogeneous State .  وكان -وربما مازال- هذا مظهرها -السعودية المتجانسة ! ، . غير أن حقيقة المملكة  السعودية إنها غير ذلك فلا هي متجانسة ولا هي كيان واحد  -بل هي أقاليم متعددة ، تسمى الجزيرة العربية- ولم يكن اسمها السعودية إلا قبل 90 عاماً كما إنها لم تكن سلفية ولا وهابية لا من حيث السكان ولا التاريخ ولا الجغرافيا …  فالتاريخ يحكي قصة أخرى.!

 فالمملكة بشكل خاص، هي في الأصل الجزيرة العربية ، ولم تكن في تاريخهما المعروف كله متجانسة، لا في جاهليتها ولا في إسلامها، لا قبل قيام الدولة الحديثة  لعائلة ال سعود  ولا بعدها. لقد عكس النظام الحاكم “السعودي” صورة غير حقيقية عن واقع المملكة، تلك الصورة  أرادت أن تقول بأن المملكة نسيج عرقي واحد، ونسيج مذهبي واحد ونسيج جغرافي موحد ،  ..  كما أن وجه المملكة الخارجي لا يعكس واقعها التعددي الثقافي والديني، ومن هنا كانت كتابات الغرب بوجه خاص بعيدة عن الواقع. وقد أفضى شحّ المعلومات عن المملكة ووضعها الداخلي إلى رسم صورة مغرقة في الأخطاء والتعميم.

خلال العقد الأخير بدأ ما يمكن توصيفه بإعادة اكتشاف المملكة من جديد، ليس من قبل الخارج فحسب، بل من أبنائها في الداخل أيضاً. فقد كان اتساعها القاريّ-  وتشرذم السكان على مساحة واسعة من الأرض مطوّقة بالصحاري وابتعادهم في مناطق شبه مغلقة تحت حكم قبلي او ديني أو مذهبي ، إضافة إلى ضعف أدوات التواصل رغم ثورة المعلومات، جعل كل منطقة في السعودية تشبه الدولة منفصلة الشعور والتواصل عن  الآخر، وبسبب الضغوط -الطائفية والسياسية مجتمعة- اختفت حقيقة وواقع التعدد في المملكة  ، وبقيت صورة واحدة كرّسها الإعلام المحلي لعقود طويلة.




ما هي الصورة الأقرب إلى الحقيقة التي نحاول اكتشافها هنا؟

باختصار هناك دولة “سعودية” تحوي طيفاً واسعاً من المواطنين المختلفين مذهبياً ومناطقياً وقبلياً، جرى توحيدهم في إطار سياسي واحد استكمل في يناير/ كانون الثاني 1926 وأعلن عنه في 1932 تحت مسمّى المملكة العربية السعودية. أما الواقع التعددي فلم يتغيّر كثيراً منذ ذلك الحين، فخصائص المناطق التي تشكلت منها المملكة لاتزال باقية على حالها في 2022 ، رغم محاولات حثيثة لاتزال قائمة في هذا الاتجاه من أجل إعادة تشكيل نسيجها الاجتماعي والثقافي بشكل يذيب تلك الخصائص في بوتقة دينية واحدة “الوهابية” ومناطقية واحدة “نجد التي ينتمي لها ال سعود ” فالوهابية ونجد لعبتا الدور التوحيدي السياسي الأساسي فصنعتا الدولة السعودية الحديثة وطبعتاها بطابعهما وتم عزل وتهميش كل الأقاليم والمذاهب الأخرة في جزيرة العرب السعودية.




”
المنطقة الشرقية (القطيف والأحساء) تقطنها أكثرية شيعية، وتبلغ مساحتها 31.28% من مساحة المملكة ويبلغ تعداد سكانها حسب الإحصاء الرسمي ما نسبته 14.67% من مجموع السكان
”
الخارطة الدينية/المذهبية في المملكة متوائمة مع الخارطة السياسية المناطقية. وبهذا الاعتبار يمكن النظر إلي مجتمع المملكة كـ”مجتمع أقليات” لا يحوز أي منها ما نسبته ثلث عدد السكان وبالتالي لا يوجد في السعودية أكثرية لكي تحكم أو تجعل نفسها واجهة لثقافة ومذهبية الدولة ، فالكل أقليات  . والمملكة تتشكل من أربع مناطق رئيسية:




المنطقة الوسطى (نجد) /-

حيث يغلب عليها المذهب الحنبلي بقراءته السلفية الوهابية وبعض الشافعية وعشائر عربية “قحطانية”. وعلماء المذهب الحنبلي –  الوهابي*  هم عماد المؤسسة الدينية الرسمية للدولة السعودية في الخارج والداخل وهم من يسيطر على كل الحقول الدينية والقضائية والتعليم والتوجيه الديني والمساجد والأوقاف وغيرها.

إن وجه الدولة الديني يرسم في هذه المنطقة دون أي مساهمة من سواها وكأن لا يوجد مذاهب ولا طوائف أخرى . ويبلغ عدد سكان هذه المنطقة “نجد” حسب الإحصاءات الرسمية المنشورة (وهي إحصاءات لا يؤخذ بها عادة من قبل الباحثين بسبب البواعث السياسية التي تقف وراءها) نحو 32.12% من مجموع السكان، ويعيشون على مساحة 36.20% من مجمل مساحة المملكة. وكانت “نجد” نفسها تحوي عدداً من الشيعة يقيمون في حائل تحت سلطة التسامح التي أقامها ابن الرشيد (من قبيلة شمر) قبل أن يسيطر عليها الملك عبد العزيز أل سعود مؤسس الدول السعودية الحالية، وقد استخدم وجود أولئك الشيعة مبرراً دينياً للحرب ضدهم.

2-المنطقة الغربية (الحجاز)

ويغلب عليها المذهب المالكي والشافعي إضافة إلى وجود مجموعات دينية أخرى صغيرة من المذاهب الإسلامية الأخرى، بما فيها الزيدية والشيعة الجعفرية في المدينة المنورة، والشيعة الكيسانية في ينبع والفرق الصوفية. ويغلب عليها القبائل المستعربة “العدنانية” وحسب الإحصاءات الرسمية فإن عدد السكان في الحجاز يبلغ نحو 32.87% من مجموع سكان المملكة ويعيشون على مساحة تقدر بـ20.99% من مجمل مساحة المملكة.

والحجازيون لهم مرجعية دينية خاصة بهم، ورموزاً دينية مثل السيد محمد علوي المالكي، ويميلون إلى المدرسة الدينية الأزهرية في مصر والمدرسة الشامية السنية ، ولهم تواصل مع شخصيات دينية عديدة في سوريا خصوصاً وغيرهما. ولكن لقد غاب دور الحجاز في صناعة القرار الديني وانتقل بعد سيطرة السعوديين عليه إلى العاصمة الرياض ومنطقة “بريدة” السلفية  في المنطقة الوسطى بالسعودية “نجد” ، ولم يتبق للحجازيين من دور ديني ولا سياسي ولا اجتماعي  على مستوى المملكة سوى النزر اليسير.

المنطقة الجنوبية (عسير وجيزان ونجران) وهي منطقة فسيفسائية من حيث النسيج القبلي العربي والمستعرب والمذهبي. فكل المذاهب الإسلامية توجد في تلك المنطقة بما فيها المذهب الرسمي الذي حقق بعض الانتشار هناك نتيجة خلوّ المنطقة من المدارس الفكرية الفاعلة. ويوجد في المنطقة الجنوبية المذهب الشافعي والمالكي إضافة إلى الزيدي الأقرب للشيعة ، وتقطن نجران أغلبية ساحقة تنتمي إلى المذهب الإسماعيلي الشيعي  وله مرجعيته المحلية الخاصة به (المكارمة) ويقدر عددهم في المملكة بنحو نصف مليون نسمة.

المنطقة الشرقية (القطيف والأحساء) وهي منطقة بحور النفط السعودي ، وهي عاصمة شيعة السعودية –  حيث تقطنها أكثرية شيعية، ولكن هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها 31.28% من مساحة المملكة ويبلغ تعداد سكانها حسب الإحصاء الرسمي ما نسبته 14.67% من مجموع السكان، هذه المنطقة حوت منذ قرون بعيدة مدارس دينية عديدة ولكن المذهب السيعي يسطير عليها كاملاً سكانيا وتاريخيا وجغرافياً ، ولكن يوجد أيضا مدارس مذهبية أخرى كانت قويّة وحاضرة حتى منتصف القرن الماضي، وكان على رأسها بيوتات معروفة حتى اليوم. فالمدرسة المالكية وجدت من يمثلها في بيت علم “آل مبارك” والشافعية في “آل عبد القادر” والأحناف في “آل الملا”. أما الحنابلة يستطيعو نشر مذهبهم في هذه المنطقة – وأجبرت زعامتهم الدينية منذ العقود الأولى في القرن الثالث عشر الهجري إلى الهجرة خشية الانتقام (الشيخ ابن فيروز مثالاً).

ما يمكن استنتاجه هنا هو الآتي:




”
النزوع إلى القفز فوق الواقع التعددي لجزيرة العرب “السعودية ” حيث يراد منه افتعال حقيقة التوافق الديني والمذهب الواحد  على حساب الاتجاهات الأخرى للسكان . رغم أن الحنالبة الوهابية أقلية وسكان نجد نسيج غير مرتبط بنسيج سكان السعودية في الغرب والشرق والجنوب
”
إن المملكة العربية السعودية لا تحكمها أغلبية مذهبية معيّنة. والثنائية التي تعيشها حاليا ليست ثنائية شيعية سنيّة حيث أن هذه هي الحقيقة ،  ولكن تم فرض ثنائية    سلفية وهابية وحتى مذاهب السنة الأخرى تم تهميشها كاملاً وعدم السماح لها بالتواجد  ، لقد تم تأسيس السعودية  على ثنائية غير حقيقية ، وأصبح باقي السكان  والمذاهب الأخرى دون استثناء أقلية مهمشة رغم أنهم الأكثرية معاً – واصبحوا يستشعروا الغبن الديني والسياسي المفروض عليها.




إن جغرافيا الشيعة في المملكة العربية السعودية ليس محصوراً في المنطقة الشرقية، وهم اليوم موجودون في كل أنحاء البلاد بما فيها العاصمة، حيث يقيم نحو 30 ألفاً من المواطنين الشيعة إما للعمل أو الدراسة.
إن تاريخ الجزيرة العربية يكشف عن حقيقة التعدد الثقافي والديني، ولقد قامت دول سنيّة في مناطق شيعية (الجبور والخوالد وغيرهم في المنطقة الشرقية) كما قامت دول شيعية في مناطق سنيّة بما فيها نجد نفسها (دولة الأخيضريين) وكذلك في المدينة المنورة.. هذا فضلاً عن دولة الإمامة في عمان وهي إباضية، ودولة الإمامة في اليمن وهي زيدية. أكثر من ذلك يمكن القول إن أقليّة دينيّة يهودية عربية كانت تسكن جنوب المملكة، ولم ترحل عنها إلا بعد قيام الدولة اليهودية. ومن هنا يجب إدراك حقيقة هذا التعدد والكفّ عن محاولات إخفائه وطمسه وكأنّه عيب أو أن وجوده يشير إلى فشل “مذهبي” أي فشل في عملية التوحيد المذهبي القسري Religious Homogenization.

هذه الحقيقة يفترض التعاطي معها كما هي بدل أن يعيد الباحثون والمراقبون إعادة اكتشاف المملكة “اجتماعياً” فيصحون على حقائق مهولة مغيّبة، مثلما يعاد اليوم إعادة اكتشاف وضع الشيعة في العراق. أن يكون وجه الدولة سلفياً في المملكة أو سنيّاً في العراق منذ نشأتيهما كدولتين قطريتين في العشرينيات من القرن الميلادي الماضي قد يخفي الواقع عن الخارج لفترة زمنية، وقد يلغي ذلك الواقع من على السطح من جهة عدم الاعتراف بوجوده، ولكن ذلك لا يفيد في تغيير الحقائق السياسية المترتبة والمبنية في بعض جوانبها على أساس تكتلات مذهبية.




هذا الواقع التعددي في بعده المذهبي لم يحظ باعتراف الدولة ولم تعكسه بوضوح اللوائح القانونية رغم كونه كثيف الحضور في العلاقات الداخلية وفي توزيع مراكز السلطة والخدمات وتقسيم الثروة. فالنزوع إلى القفز فوق هذا الواقع التعددي يراد منه افتعال حقيقة التوافق الديني والانتصار لاتجاه مذهبي معين على حساب الاتجاهات الأخرى، لأن الاعتراف والتعامل مع التعددية المذهبية تثير مسألة الحقوق الدينية والفكرية لأتباع المذاهب الأخرى كما تتطلب في الوقت ذاته إعادة تقييم للامتيازات التي يتمتع بها المذهب المنتصر من قبل الدولة. أي بكلمات أخرى إعادة تشكيل السلطة ومكوناتها على أسس جديدة لا يرى القائمون عليها حتى الآن أنها تحقق الأغراض المنشودة من نشأتها.




ما ينعكس خارجياً عن توافق ديني في المملكة ليس سوى القناع الذي يخفي وراءه تنوعاً مذهبياً يصبغ الخارطة الاجتماعية للمملكة، ويحمل معه شروط العلاقة الصحيحة للتعامل معه كيما لا يُفتئت على جزء منه لحساب جزء آخر.




إن رفض الدولة خلق فضاء من التسامح الديني يؤسس له الاعتراف بالتعددية المذهبية ويشيعه مبدأ القبول بالاختلاف وحرية المعتقد قد يغذي الخيارات الراديكالية، وقد ينمي ميولاً متشددة لدى المضطهدين دينياً للخلاص من الشقاء المفروض عليهم من قبل الدولة.