لا مكان لغير الجنس الأبيض في السويد.. هكذا كان تاريخ التمييز والعنصرية في السويد حتى عام 1976
دائما ما يصف أبناء الشعوب الإسكندنافية بأنهم شديدو الجمال والجاذبية، فضلا عن تمتعهم بأجساد صحية وقوية، بل وتقول عنهم شعوب أوروبا وشعوب أخرى الشيء نفسه، فهُم يُمثِّلون معايير الجمال الأوروبية بحذافيرها في نظرهم -و ما يعتقد وروج له بأن شعوب اسكندنافيا السويد ذو “طبيعة استثنائية من حيث مقومات الصحة والقوة البدنية والعقلية.
ولكن الحديث عن “جينات” ومواصفات الشعوب الإسكندنافية الشكلية والجمالية وربما العقلية كما يروج له ، يُذكِّرنا بوقائع مظلمة في التاريخ القريب، حين دعمت الحكومات الإسكندنافية المؤسسات والعلماء ممن خافوا على هذا الطراز “الفريد” أو “الجينات الاسكندنافية الشقراء المتفوقة” كما سمّوها للرجل والمرأة لشمالي أوروبا ، ومن ثمَّ منحتهم السلطات الحكومية آنذاك صلاحيات ذهبوا بها بعيدا جدا في التطرف العنصري من أجل حماية هذا الطراز والنسل والشكل الإسكندنافي الفريد.
نعود لبداية القصة في بدايات القرن العشرين حيث بدأت نظريات تفوق العرق الأبيض تترسخ في المجتمع الأوروبي الحديث الذي استعمر الشرق وبدأت نظريات التفوق العرقي الأبيض والفاشية النازية تنتشر ، حيث شهدت السويد أشد التجارب الاجتماعية شراسة وعنصرية بين دول اسكندنافيا ، والتي بدأتها السويد في عام 1934 ولم تنتهِ إلا عام 1976.
فبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، كان العالم السويدي “هيرمان بِرنارد لوندبورغ” (Herman Bernhard Lundborg) يقود حركة نظافة عِرقية في السويد. فلم يكتفِ الرجل بالأبحاث العلمية رغم شهرته الدولية في هذا الوقت، لكنه أراد أن يلعب دورا سياسيا في “الحماية الجينية وحماية النسل والشكل السويدي الاسكندنافي للسويد ” ،
حيث كان مهووسا بمستقبل العِرق الإسكندنافي السويدي المميز ، وأقام معرضا تجوَّل به في شتى أنحاء السويد لرجال يُجسِّدون من وجهة نظره “العِرق السويدي المتفوق”، كما ساهم في تنظيم مسابقة جمال لإيجاد الرجل المثالي الذي يُمثِّل العِرق السويدي الجرماني. وقاد “لوندبورغ” بعد ذلك المؤسسة الوطنية للبيولوجيا العِرقية، التي قامت فيما بعد بعمليات تعقيم قسرية لحاملي “المواصفات الأدنى” غير المرغوب في تكاثرهم. “التعقيم” هو تدخل طبي لوقف قدرة الرجل أو المرأة على الإنجاب
——-
صورة مقتطعة من كتاب “أنواع الشعوب السويدية” (Svenska folktyper)
ـــــ
في الصورة أعلاه المقتطعة من كتابه “أنواع الشعوب السويدية” (Svenska folktyper)، أظهر “لوندبورغ” صورتين لفتاة (أعلى اليمين) من أعراق مختلطة في شمال البلاد (الذي رآه أكثر المناطق خطورة على جينات شعبه حيث تزاوج السويديون مع ذوي الأعراق الأخرى)، بالمقارنة مع فتاتين إسكندنافيتين أصليتين (أسفل اليسار) لم تختلط جيناتهما بأعراق أخرى. وبالطبع المقصود من الصورة واضح، إذ إن الفتاتين صاحبتَيْ العِرق الشمالي الصافي أسلم صحيا وأجمل شكلا في نظر “لوندبورغ”.
أما الصورتان التاليتان أدناه، فأظهر فيهما “لوندبورغ” ملامح فلاح من شمال السويد من تلك العائلات التي لا تحمل “العِرق الإسكندنافي النظيف” (الجزء الأعلى)، وأثبت من خلالها مدى سوء نتائج فقدان الجينات الإسكندنافية الأصلية من حيث اعتلال الصحة وتدني معايير الجمال، في مقابل صورة رجل إسكندنافي من الأعراق المسماة بالشعوب الأصلية التي قدَّمها باعتبارها تمثيلا للجينات السويدية الخالصة المتفوقة في نظره (الجزء الأسفل).
—————-
فلنبدأ رحلة الارتقاء البيولوجي
“أنا لست من عشاق السويد، إنهم قوم مرعبون، لقد استخدموا نظرية تحسين النسل رسميا حتى السبعينيات، بمعنى أنك إذا كنت قزما أو تعاني من ضمور في العضلات، فإنهم أتوا إلى مدرستك وعقَّموك إجباريا”.
حين أطلق “جيم جَيفريز”، الممثل والكوميديان الأميركي-الأسترالي، هذه الكلمات في برنامجه الكوميدي عام 2017، بدا حديثه غريبا للغاية على مَن شاهدوا المقطع، إذ ارتبطت الدول الإسكندنافية عموما في عقول الكثيرين في الزمن المعاصر بالإنسانية والحريات والديمقراطية و بالمؤشرات الإيجابية وجودة الحياة، ولم يتحدث كثيرون عادة عن التاريخ القريب للسويد والمظلم في تاريخها.
وقد خَتَم “جَيفريز” حديثه بنكتة سوداء عن طريق عرض صورة لفاتنات سويديات مُغازلا إياهن ضمنيا بالقول: “لا يمكننا أن نجادل في جودة نتائج تلك السياسات -سياسات المحافظة على النسل الاسكندنافي الجميل “؛ فضحك الجميع، – ولكن تقبع وراء هذه النكتة حقائق مظلمة عن سياسات طُبِّقَت في دول إسكندنافية حتى سبعينيات القرن الماضي، اعتقادا بأنها تساعد في حماية “الجمال” و”النظافة العِرقية” لشعوب السويد واسكندنافيا
حين عقَّمت الحكومات الإسكندنافية آلاف البشر إجباريا
إذا أردنا أن نؤرخ لرحلة البلاد الإسكندنافية مع تحسين النسل والمحافظة على العرق الاسكندنافي، يمكننا القول إن القوانين المرتبطة بهذا التقليد العلمي الاجتماعي تعاقبت لعقود على النحو التالي:
في الدنمارك بين عامَيْ 1929-1967،
وفي فنلندا بين عامَيْ 1935-1970،
وفي آيسلندا بين عامَيْ 1938-1975،
وفي النرويج بين عامَيْ 1934-1977،
وفي السويد بين عامَيْ 1934-1976.
حيث تشكَّلت المؤسسات القانونية البيولوجية في الدول الإسكندنافية بهدف الحد من اختلاط الأعراق الاسكندنافية الراقية المميزة مع أعراق منحطة ، وبدء مباشرة سياسات التعقيم والإخصاء والإجهاض لمنع تكاثر المرضى وذوي الإعاقات العقلية وأصحاب الأمراض الوراثية، وفي بعض الحالات أيضا البشر غير المرغوب فيهم اجتماعيا (لأنهم فقراء أو قد يُثقلون كاهل دولة الرفاه أكثر من اللازم).
وقد قُدِّر إجمالي عدد الضحايا بين عامَيْ 1935-1975 في السويد بـ63 ألف شخص تم إخصاءهم أو إجهاض نسائهم ومنعهم من التكاثر ، أكثر من 90% منهم من النساء، وفي النرويج 40 ألف شخص، وهي الأرقام الأعلى في المنطقة لضحايا تلك السياسات.
من الغريب أن هذه القوانين التي سُنَّت للحفاظ على ما سُمي الأسرة الوطنية والجيينات السويدية المميزة تمتعت بتأييد واسع من سكان السويد واسكندنافيا – لقد شمل التأييد لسياسة التعقيم والخصي كل من أحزاب اليمين واليسار.
لعل الأيديولوجيا التي ذاع صيتها في البلاد كانت أخطر من عمليات التعقيم نفسها التي طالت آلاف الإسكندنافيين غير المرغوب بهم. ، فالحق في الحياة مكفول للجميع، بينما الحق في تمرير الجينات ينبغي أن يكون حكرا على أصحاب الجينات الإسكندنافية الجرمانية عالية المنزلة . إن الفلسفة المؤسِّسة للفكرة كلها تقول إن هناك أفرادا متفوقين بيولوجيًّا وأفرادا أدنى منهم، وأنه ينبغي لنا تعليم المجتمع ثقافة انتقاء المتفوقين، ولا نسمح بتمرير جينات الضعفاء، بكل ما يعنيه هذا الضعف.
طريق النقاء الإسكندنافي
واحدة من أكثر الجماعات في النرويج والسويد التي تم سحق تناسلها و التي استُهدِفت بواسطة سياسات تحسين النسل هي جماعات “الغجر” (شعب الروما) كما بيَّنت التقارير التي نشرتها وزارة الثقافة السويدية بين عامَيْ 2003-2015، ووزارة التنمية الإقليمية النرويجية عام 2003. حيث تم اتخاذ إجراءات تعقيميه وإخصاء ضد الغجر صراحة لأنهم “مجرمون بالفطرة”.
في حين وصف عالم تحسين النسل السويدي “نيلس فون هوفستِن” الغجر بأنهم “أفراد أدنى واحقر وراثيا وعرقيا “. وفات هؤلاء العلماء بالطبع أن سبب أن هؤلاء الغجر وغيرهم مشكلتهم هي الفقر والمرض والتهميش ولم يحظوا بفُرَص صحية وتعليمية ، والمشكلة ليست بسبب جيناتها، بل بسبب موقعها الاجتماعي، ولو إن توافرت لها الفُرَص كاملة مثل أقرانها الإسكندنافيين، فستتضاءل بوضوح معدلات انخراطها في الجريمة وإصابتها بالأمراض.
لقد مَثَّل وجود الغجر في الشوارع الإسكندنافية بسكانها البيض الشقر المميزين حالة “شاذة” في أنظار البعض ، وانتشر تصور ضمني بين علماء تحسين النسل وقطاع عريض من السياسيين السويديين أن ما يجب فعله معهم هو اتباع سياسات التعقيم الإجباري رحمة بهم وبنسلهم الذي ينبغي ألا يأتي وأن يتم إبادة تكاثرهم كعرق متدني . وكان مبرر تعقيم إحدى هؤلاء الغجر، وهي فتاة عمرها 17 عاما فقط حينئذ، أن لها وجها “مغوليا” داكنا، و”عقلية مغولية أيضا قائمة على المراوغة والجبن والخداع”.
ونلاحظ هنا واحدة من الأفكار المؤسِّسة فيما سُمِّي بعلم تحسين النسل، وهي أن شكل الناس وجسدهم يُعبِّران عن شخصياتهم. وقد تطورت هذه الأفكار في النهاية إلى قوانين في السويد حظرت الزواج من الأشخاص ذوي الأمراض والإعاقات العقلية، فضلا عن المصابين بأمراض تناسلية وأصحاب السجل الإجرامي، وقد بدأت في النرويج عام 1918، والسويد عام 1915، والدنمارك عام 1922، وفنلندا عام 1929.
لا شك أن سياسات تحسين النسل لم تُطبَّق على أعداد ضخمة في الأخير، وأن عشرات الآلاف الذين حُرموا الإنجاب لم يكُن نسلهم ليؤثر سلبا على النظافة العِرقية للنسل الاسكندنافي الراقي كما ظن صُنَّاع القرار الإسكندنافيون آنذاك، الذين لم يحسبوا حساب عصر جديد من العولمة ستتوافد فيه أضعاف تلك الأعداد من الأعراق التي يحتقرونها آنذاك في صورة مهاجرين على القارة الأوروبية كلها، ليس لتلويث الأعراق الأوروبية، بل لتُعيد التوازن إلى شيخوخة المجتمع وعدم فناء العرق الاسكندنافي الذي يحتاج لمن ينشطه من الهجرات الأوروبية والشرقية وتملأ آلاف الوظائف الفارغة في القارة العجوز.
في نهاية المطاف، ربما يكون الأهم من التفكير في التعقيم الإجباري باعتباره ممارسة مُظلمة حدثت في الماضي القريب، هو التفكير في الثقافة العنصرية التي أوجدته وربما لا تزال بذورها حية وبقوة حتى اللحظة كما شاهدنا صورة مصغرة منها في انتخابات السويد 2022.
تقرير – المركز السويدي للمعلومات (سلسلة – عقود من العنصرية المنسية)