قضايا اللجوء

كنت احلم بالوصول إلى أوروبا .. ولا أصدق أن هذه أوروبا”

  قبل عامين من الآن ، خرج محمود* من قطاع غزة   بهدف الوصول إلى بلجيكا وطلب اللجوء هناك. تواصل معه وعاد بتفاصيل رحلته التي استغرقت 10 أشهر، قطع خلالها حدود أكثر من تسع دول، وكاد أن يفقد حياته.




خرجت من قطاع غزة  لأسباب سياسية واجتماعية أحاطت بحياتي هناك، كنت أبلغ من العمر 19 عاماً وقتها، ووضعت أمامي هدفاً واحداً: الوصول إلى بلجيكا، خاصة بعد ما سمعته من أصدقائي الذين وصلوا إليها وانطباعاتهم عما تقدمه من تسهيلات للفلسطينيين.




بعد المرور بمصر وصلت إلى تركيا، وهي المحطة الرئيسية لأغلب المهاجرين القادمين من قطاع غزة باتجاه أوروبا. من هناك، بدأت رحلتي التي استمرت قرابة العام، قطعت خلالها حدود تسع دول أوروبية، وتعرضت للضرب والإهانة من رجال الشرطة، تسلقت الجبال ونمت في الغابات، وكدت أفقد حياتي أثناء عبور أحد الأنهار.




بدأت الرحلة في تركيا

لم تكن فترة وجودي في تركيا صعبة، فمن السهل أن تجد مهرباً ليساعدك على دخول اليونان، خاصة وأن الخيارات مختلفة وفقاً لما يعرضه المهاجر من نقود.

بعد محاولات عديدة فاشلة دامت شهرين ونصف الشهر، دخلت اليونان براً بطريقة غير شرعية.




قضيت هناك سبعة أشهر ونصف، وباءت بالفشل كل محاولتي لدخول الاتحاد الأوروبي جواً بوثائق سفر مزورة، ناهيك عن تعرضي للسجن لمدة شهر على إثرها. لذلك قررت أن أعبر الحدود الألبانية برفقة مجموعة من المهاجرين من جنسيات عربية وآسيوية، وهنا بدأت المعاناة بالازدياد.




لقد نمنا 15 يوماً في الغابات ونحن نحاول الوصول إلى حدود دولة الجبل الأسود، التي فشلنا مراراً في عبورها. لذا قرر المهرب أن نغير النقطة الحدودية التي نوينا العبور منها، واستبدالها بمنطقة جبلية وعرة وشديدة البرودة.



كانت مشاعري مختلطة، فتضاريس غزة خالية من الجبال ولا تتساقط فيها الثلوج، ولم أحظ خلال حياتي بفرصة لتسلق جبل أو رؤية الثلج في الشتاء. لكني وجدت نفسي مضطراً لتسلق جبل تتسم سفوحه بالانحدار الشديد، ويكسوها ثلج كثيف ليصل إلى ركبتي.




أعطانا المهرب أكياساً بلاستيكية لتغطية أقدامنا بها بغية تجنب تسرب رطوبة الثلج إليها، وبدأنا بالتسلق. وعندما عبرنا حدود الجبل الأسود، بعد يومين، كانت أقدامنا قد تجمدت من شدة البرودة.




مكثنا في الجبل الأسود أسبوعاً قبل أن نعبر حدود البوسنة والهرسك.

وفي البوسنة والهرسك، اتفقنا مع مهرب باكستاني على أن نقصد كرواتيا لنصلها بعد 4 أيام ونصف من المشي، وقال إن سيارة أجرة ستكون في انتظارنا لتنقلنا إلى إيطاليا قبل أن نفترق كل إلى وجهته. لكن ذلك لم يحدث.




كنت ألفظ آخر أنفاسي.. وفقدت كل شيء كان بحوزتي

بدأنا بالمشي مع المهرب الباكستاني، وعبرنا حدود كرواتيا عبر نهر صغير اسمه جلينا على الحدود البوسنية، ثم اضطررنا إلى عبور نهر آخر اسمه كورانا داخل الأراضي الكرواتية لنكمل طريقنا.






زعم المهرب أن التيار المائي في النهر ليس شديد السرعة، وأن كل ما علينا فعله هو الاستناد على قطعتين من الخشب أثناء عبورنا للنهر. وبعد عبور 4 مهاجرين بسلام، قررت أن أعبر برفقة اثنين آخرين، وما أن وصلنا إلى وسط النهر فوجئنا بشدة سرعة التيار، فانزلقت القطع الخشبية ووقعنا في المياه.




تمكن الشابان الآخران من التشبث والوصول للضفة الأخرى، بينما جرفني التيار إلى شلال صغير كان يبعد عنا بضعة أمتار، ووجدت نفسي ملقىً على وجهي تحت التيار القوي، عاجزاً عن الحركة ووجهي تحت الماء الشديد البرودة. كل ما أذكره أني فقدت حقيبة ظهري التي جرفها التيار، إلى أن قام المهرب بانتشالي من معطفي قبل فقداني للوعي بلحظات.



شعرت أني مدمر كلياً، فلقد توقف هاتفي عن العمل، وفقدت كل نقودي وملابسي، عدا عن تبللي وشعوري بالبرد القارس، وقد ازرق جسدي تماما.

أشعل المهرب ناراً واستعرت بعض الملابس من المهاجرين الآخرين، ومكثنا ليلة نحاول استيعاب ما حصل.



في اليوم التالي، بدأنا السير بمحاذاة طريق عام في كرواتيا، لنتفاجأ بالشرطة الكرواتية تلقي القبض علينا، لتبدأ صفحة جديدة من المعاناة.

تعرضنا في كرواتيا للضرب والإهانة والصعق بالكهرباء من قبل أفراد الشرطة الكرواتية، الذين احتجزونا وصادروا كل ما نملك، وحطموا هواتف المهاجرين الآخرين، قبل أن يقذفوا بنا إلى نهر جلينا مرة أخرى، وأمرونا بأن نعبره باتجاه البوسنة.




اختبأت في شاحنة ليومين ونصف دون أن يعرف السائق

مكثنا في البوسنة ثلاثة أشهر ونصف الشهر، كررنا خلالها محاولاتنا لدخول كرواتيا دون جدوى، لأن الشرطة الكرواتية كانت في انتظارنا على الدوام.

وبعد فقداني الأمل، قررت أن أسلك طريقاً أكثر خطورة، بالرغم من ضآلة فرص عبوره.




توجهت برفقة ثلاثة شبان مغاربة إلى مدينة ميديوغوريه جنوب البوسنة بالقرب من الحدود الكرواتية، وهي مدينة يستريح فيها سائقو الشاحنات المحملة بالبضائع والمتوجهة من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية، وبدأنا البحث عن شاحنة تحمل أرقام دول الاتحاد الأوروبي.



وعندما وجدنا شاحنتين، انقسمنا إلى مجموعتين وتسللنا إلى داخل الشاحنتين، بينما كان السائقان يستريحان داخل أحد المقاهي المنتشرة في المدينة.

كانت معي زجاجة ماء وبعض البسكويت، وبدأت الرحلة دون أن ينتبه السائق إلى وجودنا.




تكمن خطورة هذه الطريقة في أن الشاحنات تفتش بشكل عشوائي عند الحدود الكرواتية. وحتى في حال تجاوز الحدود، يبقى هناك هامش من المخاطرة إذا ما اكتشف السائق وجودنا وما يمكن أن يفعله بنا.




لحسن الحظ، عبرنا الحدود الكرواتية، ولم يلاحظنا السائق، لكننا كنا مجبرين أن نبقى داخل الشاحنة دون حراك، ودون أن نخرج لنرى النور، ودون حتى أن نعرف في أي بلد ندخل أو من أي بلد نخرج لعدم امتلاكنا أي هواتف نقالة.




كانت تجربة صعبة جداً، فقد كنا نشعر بالعجز، حتى أننا لم نكن نستطيع الخروج لقضاء حاجتنا خلال الاستراحات الست التي أخذها السائق، خوفاً من كشف أمرنا.




وبعد يومين ونصف، توقفت الشاحنة بشكل كامل، فخرجنا منها، وبدأنا السير في الشوارع بحثاً عن أي إشارة تدلنا على الدولة التي كنا على أرضها. استعرنا هاتفاً من أحد المارة وعرفنا أننا في فرنسا، فاتصل صديقي المغربي بأقربائه الذين قدموا ونقلونا إلى بلجيكا… هدفي الذي وضعته عندما كنت في غزة.

قمت بتقديم طلب اللجوء وأتابع الآن الإجراءات مع السلطات، بينما أسكن مع فلسطينيين آخرين في منزل تابع للدولة.



اليوم، وبعد  وصولي إلى بلجيكا لا اجد إنسانية  حصلت على الرفض الأول لأسباب غير منطقية ، أجد قوانين صماء ، يوجد إهمال كبير في مفهوم طالبي اللجوء ، فلا تركوا لنا حرية الحركة والعمل والدراسة ، ولا قدموا لنا أوراق إقامة ،،  نعيش بدون إقامة  بحثوث أقل من الحيوان في أوروبا ، لا تستطيع فعل أي شيء في بلدان أوروبا ، حياة مملة وكئيبة بالانتظار القاتل ، نريد أن نتعلم اللغة أو نتدرب على مهنة أو بحث عن عمل ..لا يمكن ..فأنت طالب لجوء مرفوض !




لا زلت أتذكر تفاصيل رحلتي الطويلة محاولاً طي صفحتها والتطلع للمستقبل. لم أخبر عائلتي بتفاصيل ما مررت به وما أنا فيه الآن ، لذلك لا أريد ذكر اسمي الحقيقي حتى لا يشعروا بتأنيب الضمير، خاصة وأن وضعهم في غزة ليس مستقراً في ظل الحصار وصعوبة الحياة هناك.

هل سأتجاوز كل ذلك؟ لا أدري.






مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى